أولا: مقدمــة

الفراغ الماثل فى حياتنا السياسية والحاجة الماسة لتأسيس أحزاب جديدة:

على الرغم من كل ما قيل ويقال عن مدى ما حققته مصر حتى الآن من خطوات على طريق التطور الديمقراطى، والتعدية الحزبية، وعلى الرغم من قيام العديد من الأحزاب فى الساحة السياسية على مدى ربع القرن الأخير، فأن الحقيقة الماثلة، والتى لا يستطيع أن ينكرها أى أنسان صادق، هى أن هناك احساسا عاما بوجود فراغ سياسى كبير، بصرف النظر عن الهياكل الحزبية القائمة، وبأن الساحة السياسية تبدو، رغم كل الأدعاءات، ساحة مقفرة، بل موحشة، هذا هو احساس كل الطلائع الواعية المخلصة من أبناء هذا الشعب، وهذا هو احساس الغالبية الساحقة من أبنائه وبناته، فالأمر البادى للعيان، هو أن الأحزاب القائمة فى الساحة، على اختلاف أسمائها واتجاهاتها ليست قادرة على استيعاب آمال الجماهير وطموحاتها، أو التعبير عن مصالحها ومشاعرها، ومن ثم على نيل ثقتها أو احياء اهتمامها بالعمل السياسى، وهو ما يشكل خطورة بالغة على مصالح الوطن، بل وعلى كيانه، سواء فى الحاضر أو المستقبل.
فالذى يحمى حرية الأوطان ويصون كرامتها، والذى بينى نهضتها فى كافة الميادين، انما هى الشعوب الواعية المنظمة المتحركة، وليست الحكومات وحدها، مهما كان جهدها أو حماسها، ومن هنا فأن العمل الوطنى المنتج والخلاق، يقتضى لانجازه حشد وتعبئة الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب وبناته، وايقاظ قناعتهم وحماسهم، وضمان مشاركتهم الواعية الحرة، فى انجازه وتحقيق أهداف وبرامج العمل الوطنى، ثم فى حماية منجزاته من العبث والتخريب.
ويغير ذلك، يظل العمل الوطنى القاصر على الحكومات، محدود النتائج بحدود قدرة الأجهزة الحكومية على الأداء والرقابة والحماية، ويظل نهيا للأدواء والعلل التى تتسم بها هذه الاجهزة التى يثقلها العجز والبيروقراطية وينخر فيها الفساد.
* ان لهذه الظواهر، ظواهر ضعف الأحزاب القائمة، وانعدام فاعليتها، واستفحال الفراغ السياسى، وتفاقم سلبيةالجماهير الواسعة، وانصرافها عن المشاركة فى العمل السياسى، وهو ما يبدو واضحا من ضآلة عدد المشاركين فى الانتخابات العامة بجميع مستوياتها، ومن العديد والعديد من الظواهر الأخرى، لهذا كله أسبابه الواضحة، المتعددة والعميقة، القديمة والحديثة، من هذه الأسباب ما يتصل بالأوضاع العامة التى قامت فى البلاد منذ عهود، والتى مازالت قائمة فيها حتى الآن، وبطبيعة العلاقات السياسية والأقتصادية والأجتماعية والثقافية التى سادت الحياة المصرية طويلا ومازالت تسودها، والتى أصابت الجماهير المصرية وطلائعها بالاحباط وخيبة الأمل، ودفعت بها الى السلبية والى الابتعاد عن ساحات العمل السياسى والعام، والى الانكباب على مشاغلها العملية وهموم حياتها اليومية.
* كما تتصل هذه الظاهرة بالتجربة التاريخية الأليمة التى مرت بها الجماهير المصرية وطلائعها، فى ظل ثورة يوليو بمراحلها المختلفة، من قمع وارهاب على يد الدكتاتورية العسكرية، والحكم البوليسى، بأشكال ودرجات مختلفة بأختلاف تلك المراحل، وما لقيه الكثيرون من أبناء الشعب من تنكيل فى السجون والمعتقلات، وأمام المحاكم العسكرية، بل وفى الشوارع والمصانع والجامعات، وأقسام الشرطة فى المدن والريف، رغم أنهم لم يكونوا معادين لقيام الثورة، بل كانت أغلبيتهم الساحقة من المؤيدين لها، وممن ساهموا بنضالهم فى التمهيد لقيامها، وكل ذلك قد دفع بالجماهير الواسعة دفعا الى مهاوى اليأس والسلبية والقنوط.
على أن ذلك كله -والحق يقال- لم يبدأ مع قيام ثورة يوليو، ولم يقتصر وجوده عليها، بل أن قدرا غير قليل منه كان قائما فيما سبقها من عهود فى ظل الحكم الملكى والسيطرة الاستعمارية، وخاصة فى ظل حكومات الأقلية وأحزابها الموالية للأستعمار والقصر والاقطاع، وقد كان الأمل معقودا على أن تقوم ثورة يوليو بتحقيق حياة ديمقراطية حقيقية للشعب، بعد أن تخلصت البلاد من الثالوت الجائم على صدرها -الاستعمار والاقطاع والسراى- وأنفتح أمامها الطريق لتحقيق تحول ديمقراطى شامل وعميق، وهو ما كان من أهم أهداف نضال شعبنا خلال قرنين من الزمان، وعلى مدى تاريخة الحديث، خاصة وأن الثورة كانت قد وضعت ذلك ضمن برنامجها، وحعلته أحد الأهداف السته التى بشرت بها عند قيامها، ولكن الثورة للأسف انحرفت عن هذا المبدأ، اذ تغلبت شهوة الانفراد بالسلطة على قيادات الثورة من الضباط، ومن ساندهم من المدنين زالأنتهازين، ومن المنتفعين بسلطة الضباط، وتعلبت الشهوات والمصالح الذاتية لدى هؤلاء على مقتضيات المصلحة الوطنية، والولاء للشعب، والأخلاص للمبادئ، وساعد على حدوث ذلك كله ما كان قائما فى الساحة المصرية وقتذاك -ومازال بعضه قائما حتى الآن- من أفكار معادية للديمقراطية، منها فكرة (المستبد العادل)، تلك الفكرة الخرافية الزائفة.
وقد كان انحراف ثورة يوليو عن تحقيق المبدأ الديمقراطى، هو خطأها الأساسى القاتل، وهو أهم أسباب النكسات والهزائم التى منيت بها، والتى مازال الشعب يدفع ثمنها حتى الآن، ولقد حاولت الجماهير الشعبية وطلائعها الواعية، دفع الثورة الى تصحيح هذا الخطأ، وخاصة خلال أحداث مارس سنة 1954، ثم بعد وقوع نكسة سنة 1967، ولكن دون جدوى، اذ تغلبت الأهواء والمصالح من جديد على صوت العقل والضمير.
والدرس المستفاد من هذه الحقائق التاريخية، هو أن أى إصلاح حقيقى لأحوال البلاد وأوضاعها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الاخلاقية، وأى حماية حقيقية لمصالحها الوطنية، لا يمكن تحقيقه، الا من خلال إنجاز تحول ديمقراطى شامل وعميق، ومازالت هذه المهمة قائمة، ومازالت ملقاه على عاتق الطلائع الواعية المخلصة من أبناء هذا الشعب.
ان الوضع السياسى القائم فى مصر الآن، مازال يمثل أمتدادا للنظام الذى أقامته ثورة يوليو، سواء فى المرحلة الناصرية أو السادتيه، فهو نظام يقوم على الحكم الفردى المطلق أو شبه المطلق، وعلى مصادره الحقوق الديمقراطية والحريات العامة والالتفاف حولها، وعلى انتهاك حقوق الأنسان، وعلى الحكم البوليسى، وعلى تركيز السلطات الفعلية فى يد السلطة التنفيذية وتهميش دور السلطتين التشريعية والقضائية.
وتلك هى الحقيقة الأساسية القائمة، رغم كل الأدعاءات والواجهات الديمقراطية الشكلية الفرغة من المضمون الحقيقى.
* إن الدستور الحالى، ليس إلا تقنينا لتلك الأوضاع المتوارثه منذ ثورة يوليو، والتى قامت على إهدار المبادئ الديمقراطية رغم كل الأقوال والادعاءات، ورغم الواجهات الشكلية المقامة، بما فى ذلك المجالس النيابية التى لا تقوم على الاختيار الشعبى الحقيقى، والاحزاب المحاصرة بالقيود، والمفرغه من أى محتوى حقيقى للأحزاب الحيه، الى غير ذلك من الأمثله الأخرى.
* والثابت أن الأحزاب القائمة فى الساحة السياسية المصرية -وحتى الآن لم تستطع خلال ربع قرن من الزمان أن تقطع أى خطوة حقيقية على طريق الخروج من السلبية والفراغ السياسى، وإيقاظ أهتمام الجماهير، أو احداث أى تغير ملموس الواقع السياسى المصرى، فى اتجاه التطور الديمقراطى الحقيقى، فضلا عن المشاركة فى السلطة، أو فى ايجاد الحلول للمشكلات العديدة والعميقة التى تواجهها البلاد.
ومن الثابت أيضا أن أيا من هذه الأحزاب القائمة -على اختلافها، لا يحظى بالمكانة الجماهيرية اللازمة لتمكينه من التأثير على الأوضاع السياسية القائمة، أو فى تغير المناخ السياسى القائم.
وأخيرا فإنه من الواضح، لكل ذى عينين، أن الساحة السياسية المصرية باتت فى حاجة ماسة الى أحزاب جديدة حقيقية، أحزاب قادرة على تحريك هذا الركود، وعلى شق طريقها فى الحياة السياسية بطريقة أكثر حيويه وفاعلية وقدره على إقناع الجماهير وإثارة حماسها للمشاركة فى الحياة السياسية، وفى العمل السياسى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق