2- قضية التحرر الوطنى فى وضعها الراهن

أولى القضايا الأساسية للعمل الوطنى فى بلادنا فى هذه المرحلة، هى قضية التحرر الوطنى.
وقضية التحرر الوطنى ليست قضية الكرامة والكبرياء الوطنى فحسب، ولكنها قضية حياة ومصير ومستقبل بالنسبة لشعبنا، ولأى شعب، فهذا التحرر الوطنى هو الشرط الاول للحفاظ على الأرض، ولتحرير الادارة، وللعمل المثمر البناء من أجل بناء الحاضر والمستقبل.
وقضية التحرر الوطنى فى وضعها الراهن -وخاصة بعد اتمام تحرير سيناء من الاحتلال الاسرائيلى- سوف تتمثل فى مهمة الحفاظ على استقلالنا الكامل وحمايته من أى قيد أو مساس، وهذه مهمة دائمة، كما أنها مهمة صعبة، فمنطقتنا تعانى من الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية الدائمة والحادة، والتى تحركها عوامل محلية ودولية كثيرة ومتشابكة، والعالم من حولنا يعانى من الانقسامات والصراعات الحادة بين العسكريين الرئيسيين، وداخل كل معسكر على حدة، وتشتد وطأة التكتلات السياسية والاقتصادية والعسكرية الدولية على أعداء هذه التكتلات وعلى أعضائها على السوء، كما يشتد خطرها وتهديدها لسلام واستقرار العالم كله، وفى مثل هذه الظروف والأوضاع المحلية والدولية، فأن الحفاظ على استقلالنا الوطنى الكامل يغدو مهمة صعبة، ويستدعى تحقيقها أقصى درجات العزم، وأعلى درجات اليقظة والحذر.
لقد أضحى مفهوم الاستقلال الوطنى الآن أكثر عمقا وشمولا مما كان عليه الأمر فى الماضى، أذ لم يعد يعنى مجرد الاستقلال السياسى فحسب، بل أصبح يعنى بنفس الدرجة الاستقلال الاقتصادى، والاستقلال العسكرى الكاملين، كما أنه أصبح يقتضى درجة عالية من الاستقلال الفكرى والثقافى، لذلك فأنه يتحتم علينا ونحن نضع البرنامج العام والبرامج التفصيلية لعملنا الوطنى فى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية ، أن نضع مقتضيات استقلالنا الوطنى -بمفهومة الشامل- فى المحل الأول من اعتبارنا، وبهذا فأن مهمة الحفاظ على الاستقلال الوطنى الكامل، سوف تفرض نفسها على مجمل الاتجاهات الأساسية لسياستنا الداخلية والخارجية.
وقضية الاستقلال الوطنى تتصل بالعديد من القضايا الأخرى على المستويين الأقليمى والدولى.
فهى تتصل أولا بوضع مصر العربى، وتقتضى تحديد مواقف واضحة وسياسات ثابته فى علاقاتها العربية.
أن مصر المستقلة، والمحافظة على استقلالها، هى فى نفس الوقت جزء لا يتجزأ من أمتها العربية، وانتماء مصر العربى ليس وليدا للحقيقة التاريخية أو الواقع الجغرافى فحسب، ولكنه أيضا وليد الادراك الواعى لمقتضيات الأمن، وللمصالح المشتركة لسائر شعوب الأمة العربية، وهو ضمان أساسى للتقدم السياسى والاقتصادى والثقافى للأمة العربية، وللمنظمة كلها.
ان الوضع الطبيعى بالنسبة لأية أمة تملك من مقومات الوحدة ما تملكه الأمة العربية، هو أ، تحقق فى النهاية وحدتها السياسية والاقتصادية والعسكرية الكاملة، وهذا ما يقتضية التطور التاريخى كما تقتضية المصلحة المشتركة لهذه الأمة فى أرقى وأكمل صورها، وعلى العرب الا يفقدوا أيمانهم بهذا الهدف مهما كانت الصعوبات ومهما طال الوقت.
ولكن الحقائق الواقعة ينبغى أن توضع فى الاعتبار أيضا، فالتفاوت فى مستويات التطور السياسى والاقتصاى والاجتماعى والثقافى بين الشعوب العربية، والاختلاف فى الخصائص الذاتية لكل منها، هى أمور واضحة لا يمكن تجاهلها أو القفز على نتائجها، وكل محاولات أو دعوات الوحدة التى تغاضت عن هذا الواقع أو تجاهلت مقتضياته قد باءت بالفشل.
أن تحقيق الوحدة العربية هو مطلب تاريخى، أى أنه يحتاج الى مزيد من الظروف والأوضاع المحلية والدولية المواتية، وهو ما سوف يستغرق كثيرا من الوقت ويستدعى كثيرا من الجهد.
لذلك فأن الموقف الأكثر واقعية والأكثر جدوى فى تحقيق المصالح المشتركة للعرب فى الأوضاع الراهنة، والأبعد أثرا كذلك فى تقريب أمل الوحدة الكاملة فى المستقبل، هو مضاعفة الجهود لتحقيق التضامن والتقارب والتكامل بين الشعوب العربية جميعا، ولاستكمال تحررها وتطوير حياتها على كافة المستويات.
وعلى مصر، باعتبارها قسما أساسيا وطليعيا من أمتها العربية، يقع العبء الأكبر فى العمل على تحقيق هذا الهدف.
وفى هذا الاتجاه، فأن علينا أن نعمل جهد طاقتنا على تجاوز الوضع المؤسف الراهن، وعلى أزالة العزلة القائمة الآن بين مصر وشقيقاتها العربيات.
غير أن الأمر فى كل ذلك لا يتوقف على موقف مصر وحدها، ولا على جهود المصريين وحدهم، بل أنه يتوقف كذلك على مواقف وجهود سائر الدول والشعوب العربية.
أنه يتوقف الى حد كبير على مواقف وسياسات الدول العربية الأخرى، سواء كان ذلك بالنسبة لتجاوز مرحلة القطيعة القائمة بينها وبين مصر، أو بالنسبة للعمل الجدى الدائب والصبور على تحقيق التضامن والتكامل والتقارب العربى، ولارساء هذا الاتجاه على أسس عملية متينة.
وهو يتوقف فى النهاية على نضال الشعوب العربية كلها، وعلى جهود ومواقف طلائعها الواعية فى كل الاقطار.
وقضية الحفاظ على الاستقلال الوطنى، تتصل اتصالا مباشرا بالقضية الفلسطينية ومن ثم بقضية الصراع العربى الاسرائيلى.
أن اقامة دولة يهودية كحل للمشلكة اليهودية هو خطأ نظرى وتاريخى، اذ لا يمكن أن يكون الحل الصحيح لمشكلة الاضطهاد والتمييز العنصرى والدينى فى العالم المعاصر هو تقسيم الدول أو أقامة دولة جديدة على أسس عنصرية أو طائفية، بل أن هذا الحل الصحيح هو فى النضال المشترك من أجل الديمقراطية والتسامح وتأكيد حقوق الانسان، ولتحقيق التعايش الديمقراطى بين كل العناصر والطوائف داخل الدولة الواحدة.
كذلك فأن أقامة الدولة اليهودية فى فلسطين بالذات، استنادا الى دعوى الحقوق التاريخية لليهود فيها، هو أيضا خطأ نظرى وتاريخى، أذ أننا لو سمحنا بأرجاع التاريخ مئات وآلاف السنين الى الوراء، وعلى أعادة الشعوب والجماعات البشرية الى مواطنها الأولى، لما بقيت دولة واحدة على حالها، ولعمت الفوضى كل أنحاء الأرض، ولما وصلنا مع ذلك الى أيه نتيجة، وسوف يثبت التاريخ على المدى الطويل هذا الخطأ، وأن ما حدث فى فلسطين لن يحل المشكلة اليهودية ولا أية مشكلة أخرى.
ولقد شاركت فى صنع مأساة فلسطين عدة عوامل، فتداخلت فيها السيطرة والأطماع الاستعمارية فى المنطقة، وضعف العرب وتفككهم، وطبيعة الأوضاع والتوازنات العالمية بعد الحرب العالمية الثانية.
ولقد كان مشروع تقسيم فلسطين الى دولة عربية وأخرى يهودية، والذى أقرته الأمم المتحدة عام 1948، بشروطه وحدوده، هو "أفضل الحلول السيئة" كما قيل عنه فى ذلك الوقت، ولكن هذا المشروع لم تتح له فرصة التنفيذ، بل تألبت عليه أطماع التوسع الاسرائيلى، والتواطؤ الاستعمارى، وسوء التقدير والتصرف العربى، وترتيب على وأد هذا المشروع مزيد من ضياع الحقوق العربية، وتفاقم المشكلة الفلسطينية، وتصاعد الصراع العربى الاسرائيلى.
وأيا كانت الاعتبارات النظرية والتاريخية، فأن من مصلحة العرب، ومن مصلحة اليهود، ومن مصلحة السلام والاستقرار فى المنطقة وفى العالم كله، أن يتوصل الجميع الى اقرار حل عملى وسلمى للمشكلة الفلسطينية، وبالتالى للصراع العربى الاسرائيلى.
ويعتبر انسحاب اسرائيل الكامل من الأراضى المصرية، طبقا لاتفاقية السلام المصرية الاسرائيلية، خطوة تمهيدية ايجابية فى هذا الاتجاه، غير أن هذه الخطوة لا يمكن أن تكون بديلا لحل المشكلة الفلسطينية التى هى جوهر الصراع العربى الاسرائيلى، أو على حساب هذا الحل، كما أنها لا يمكن أن تكون بديلا لايجاد حل شامل ودائم للصراع العربى الاسرائيلى.
وفى رأينا أن الحد الأدنى الذى يمكن أن يقوم عليه حل المشكلة الفلسطينية الآن هو فى انسحاب اسرائيل من غزة والضفة الغربية (بما فيها القدس العربية)، وفى اقامة الدولة العربية الفلسطينية المستقلة عليهما طبقا لمبدأ حق تقرير المصير لعرب فلسطين مع تقرير حق العودة للفلسطينيين الذين يرغبون فى العودة الى بلادهم، ويعتبر الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وتمثيلها للشعب الفلسطينى الخطوة الأولى نحو ذلك، كما أن الحل الدائم للصراع العربى الاسرائيلى يستلزم تنفيذ هذا الحل للمشكلة الفلسطينية، وجلاء اسرائيل عن منطقة الجولان السورية، ووقف تهديداتها وتدخلاتها واعتداءاتها على الأراضى اللبنانية وغيرها من الأراضى العربية، وسوف يتوقف مستقبل السلام فى المنطقة على مدى قبول جميع الأطراف المحلية والدولية لهذا الحل، والتزامهم بمقتضياته.
أن حل المشكلة الفلسطينية، واقامة دولة فلسطين العربية، والتوصل الى حل سلمى عادل ودائم للصراع العربى الاسرائيلى، هى أمور لا تتصل فقط بمشاعرنا العربية أو بتضامننا مع الأشقاء الفلسطينيين والعرب فحسب، ولكنها أمور وثقية الصلة بأمن مصر وسلامتها، وبحماية استقلالها الوطنى.
وقضية استقلال مصر الوطنى تتصل أيضا بدور مصر الطليعى تجاه العالم الاسلامى، وتجاه دول وشعوب قارتنا الافريقية، وهو دور لا يقوم على الرغبة فى التسلط أو التدخل، ولكن على روح التضامن والمساعدة الأخوية السلمية النزيهة، وفى حدود الطاقة العملية، من أجل تحقيق واستكمال حرية وتقدم هذه الشعوب، وهذا الدور الطليعى بما يقتضية من واجبات، أنما تمليه علينا الروابط التاريخية والجغرافية والحضارية القائمة بيننا وبين هذه الدول والشعوب، كما أن له مردوده العملى فى تدعيم أمن مصر واستقلالها الوطنى، وفى تنمية دورها العالمى، وفى خدمة مصالحها السياسية والاقتصادية والثقافية.
وقضية الحفاظ على استقلالنا الوطنى تتصل اتصالا وثيقا ومباشرا بموقف مصر من التكتلات السياسية والاقتصادية والعسكرية القائمة فى عالمنا، ومن الصراعات وعمليات الاستقطاب الحادة الدائرة بينها، وقد اثبتت تجربتنا المباشرة، كما تثبت التجربة العالمية كلها، أن ارتباط بلد صغير أو متوسط مثل مصر، وخاصة اذا كان من بلدان العالم النامى، بأى من هذه المعسكرات والتكتلات، لابد أن يكون على حساب أمنه واستقلاله الوطنى، وعلى حساب مصالحه الوطنية، والأمر لا يقتصر فقط على المخاطر والصعوبات والأضرار التى يتعرض لها مثل هذا البلد من جانب المعسكر المضاد، بل أيضا -وربما بدرجة أكبر- من جانب المعسكر الذى ينضم اليه، فانحيازه الى أى معسكر لابد أن يفرض عليه العديد من القيود السياسية والاقتصادية والعسكرية التى تمليها الاستراتيجية الدولية لهذا المعسكر، وهو ما ينتقص من استقلاله الوطنى، وامنه القومى، ويضر بمصالحه.
لذلك فان الالتزام الدقيق الحازم بمبدأ عدم الانحياز، وبالحياد الايجابى بين المعسكرات الدولية المتصارعة، هو أكثر المواقف سلامة وملائمة لمقتضيات الحفاظ على استقلالنا الوطنى وأمننا، وهو أكثرها تحقيقا لمصالحنا الوطنية وخاصة فى ظروفنا الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، وهذا الموقف وحده هو الذى يرتضيه شعبنا، والذى يصون وحدتنا الوطنية، اذ يمكن أن تلتقى عليه كل القوى الوطنية فى بلادنا.
وعلى أساس هذا الموقف، فانه يتعين على مصر ا=أن ترفض دائما الارتباط بأية اتفاقات أو التزامات دولية تمس استقلالها أو تتعارض مع حيادها، أيا كان شكل أو مدى هذه الالتزامات، كما يتعين على مصر أن ترفض السماح لأية قواعد أو قوات أجنبية بالتواجد على أرضها، ولأية دولة بأن يكون لها مركز سياسى أو اقتصادى أو عسكرى خاص فى مصر.
وتمسكنا بمبدأ عدم الانحياز لا يمنع من سعينا المتواصل لإقامة علاقات الصداقة والتعاون مع أية دولة، ومع سائر الدول على اختلاف نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل أنه على العكس، سوف يساعد على تحقيق ذلك.
وتمسك مصر بمبدأ عد الانحياز، لا يعنى عزلتنا عن العالم وما يجرى فيه من أحداث، أو تخلينا عن نصره المبادئ التى نرتضيها للحياة الدولية، أو مناصرتنا لكل قضايا التحرر والعدالة والسلام والتعاون الدولى، فمناصرتنا لكل هذه القضايا، ومشاركتنا فى كل الجهود الدولية التى تبذل فى سبيلها، فضلا عن أنه مسألة مبادئ، سوف يعود بمردوده الايجابى فى خدمة استقلال مصر الوطنى، وتحقيق مصالحها الوطنية.
* * * *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق