6- من أجل العدالة الاجتماعية

أن قضية العدالة الاجتماعية ترتبط أوثق ارتباط بسائر القضايا الأساسية الأخرى للعمل الوطنى، فهى ترتبط بقضايا النضال من أجل الحفاظ على استقلالنا الوطنى، ومن أجل إقامة حياة ديمقراطية سابغة وراسخة على أرضنا، ومن أجل الخلاص من أسر التخلف وانجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة.

وفى بلاد كبلادنا، حيث يعيش من 40% من الشعب تحت "خط الفقر" كما تقول الاحصاءات الرسمية، وحيث أكثر من 50% آخرون على "خط الكفاف"، أى أكثر من 90% من شعبنا يعيشون فى صراع يومى مع المشكلات الناتجة عن الفقر، فأن قضية العدالة الاجتماعية تصبح قضية بالغة الأهمية والخطورة، اذ كيف يمكن لشعبنا أن يخوض نضالا ناجحا فى كل ميادين العمل الوطنى، اذا كانت أغلبية الساحقة مثقلة الخطى، مرهقة بمشكلات الفقر؟ وكيف يمكن الى جانب ذلك كله أن نضمن استقرار الوحدة الوطنية، والسلام الاجتماعى، اللازمين لتحقيق أى تقدم فى حياتنا؟

ولسنا نعنى من وراء هذه التساؤلات القول بأن علينا أن نحل أولا مشاكل الفقر، والظلم الاقتصادى والاجتماعى، قبل أن نعمل على حل باقى مشكلاتنا، ومن أجل تحقيق باقى أهداف العمل الوطنى، فنحن على عكس ذلك ضد أى اتجاه للفصل بين مختلف وجوه العمل الوطنى، ومن أجل ذلك فنحن نرى أن هناك ضرورة حتمية فى أن يسير نضالنا ضد الظلم الاقتصادى والاجتماعى، ومن أجل المزيد من العدالة الاجتماعية ورفع المعاناة عن الجماهير، وتحسبن ظروف معيشتها باستمرار، جنبا إلى جنب، وخطوة بخطوة، الى جانب نضالنا من أجل تحقيق سائر أهداف العمل الوطنى الأخرى.

..........

أن الدعوة الى تحقيق العدالة الاجتماعية ليست بالأمر الجديد فى تاريخ البشرية، وقد انحازت الأديان السماوية، كما انحازت كل المذاهب والدعوات الانسانية الى هذه الدعوة، فدعت جميعها الى تحقيق العدل والرحمة داخل المجتمعات، وبين البشر.

غير أن الاشتراكية، هى الصياغة الحديثة للدعوة الى العدالة الاجتماعية، فضلا عن أنها دعوة الى تنظيم الحياة الاقتصادية بصورة أفضل، والاشتراكية -بمفهومها العام-  هى الامتداد الطبيعى المكمل للثورة الديمقراطية، لأنها تعنى تطبيق الديمقراطية فى المجال الاجتماعى.

وأيا كان موقف أى إنسان من الاشتراكية، فعليه أن يعرف أنها هى الاتجاه السائد فى عالمنا المعاصر، فنصف العالم أو يزيد تحكمه حكومات وأحزاب تتخذ من الاشتراكية -على أختلاف مفهوماتها وتطبيقاتها- منهجا رسميا لها فى توجيه الحياة الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها، ومعظم بلاد العالم الثالث، تحاول أن تشق طريقها متخذه من الاشتراكية بمفاهيمها العامة مرشدا لها، بل أنه حتى فى أكثر بلاد العالم عراقة فى تبنى النظام الرأسمالى، والمذهب الفردى، فأن وجه الحياة فيها يتغير عاما بعد عام، فى أتجاه الأخذ بمزيد ومزيد من الاجراءات والتدابير الاقتصادية والاجتماعية ذات الطابع الاشتراكى، والتى تعتبر انعكاسا للاتجاه الاشتراكى بدرجة أو أخرى، وهكذا فأنه يمكن القول، شئنا أم أبينا، بأن عالمنا يسير بخطى حثيثة تطبيق الاشتراكية، بأشكالها ودرجاتها ومفهوماتها المختلفة.

..........

وقد رفعت مصر -رسميا- شعار الاشتراكية كمبدأ أساسى لتنظيم حياتها الاقتصادية والاجتماعية منذ بداية الستينات أو قبل ذلك بسنوات، وجاء ذلك فى دستور سنة 1956 الذى اقره الشعب فى استفتاء وطنى عام تحت صياغة "الاشتراكية الديمقراطية التعاونية"، ثم جاء ذلك فى "ميثاق العمل الوطنى" الذى قرر أن "الاشتراكية العلمية" هى المبدأ الأساسى للتنظيم الاقتصادى والاجتماعى فى مصر، وأخيرا فإن دستورنا الحالى، وهو دستور سنة 1971، والذى أقره الشعب أيضا فى استفتاء وطنى عام، قد نص على اعتبار "الاشتراكية الديمقراطية" أساسا لحياتنا الاقتصادية والاجتماعية.

وعلى ذلك فأن مصر، رسميا ودستوريا وقانونيا، قد حددت موقفها باختيار الاشتراكية طريقا لها، وعلى الذين يتجاهلون هذا الاختيار أن يعرفوا أنهم هم الذين يقفون ضد الاختيار الشعبى، كما يقفون ضد الدستور والقانون.

وبطبيعة الحال فإن هناك فرقا -يقل أو يزيد- بين رفع شعار الاشتراكية، أو حتى اقرارها كنص دستورى وقانونى، وبين تطبيقها تطبيقا فعليا، وتحويلها الى واقع حى يعاش، فهناك أولا، الاختلافات الواسعة فى مفهوم الاشتراكية ما بين المفهومات العلمية، وما بين المفهومات الأخرى الاشتراكية، وهناك ثانيا، الاختلافات الواسعة بين أساليب ونطاق تطبيق الاشتراكية كاتجاه عام، على الواقع الحى لبلادنا، وفى ظروف حياتنا السياسية والاقتصادية والثقافية، وهذه الاختلافات، على أهميتها، قابلة للحل عن طريق البحث والحوار الديمقراطى، غير أن الخلاف الأكثر صعوبة واستعصاء على الحسم، هو ذلك الخلاف الرئيسى بين الرغبة الحقيقية فى تطبيق شعار الاشتراكية كمبدأ أساسى ودستورى، وبين الرغبة فى ابطاله وتمييعه، أو الالتفاف حوله، تغليبا للتحيزات الفكرية، أو للمصالح الذاتية والطبقية، على المصالح العليا للوطن والشعب.

ونحن اشتراكيون، لا نخفى انحيازنا الى الاشتراكية فكرا وتطبيقا، ولكننا مع ذلك حريصون على تأكيد اقتناعنا بمبدأين أساسيين فى هذا الشأن.

الأول: هو الارتباط الوثيق بين المبدأ الاشتراكى، وبين المبدأ الديمقراطى، واعتبار كلا المبدأين وجهين لعمله واحده، لا يمكن الفصل بينهما بأى حال، وكل محاولة للفصل بين الاشتراكية وبين الديمقراطية انما هى محاولة ضد الاشتراكية وضد الديمقراطية فى وقت واحد.

ويترتب على هذا المبدأ الأساسى اقتناعنا بأن النضال فى سبيل تطبيق الاشتراكية لابد أن يجرى بالوسائل الديمقراطية، وبعيدا عن أى عنف أو أرهاب أو وسائل انقلابية.

كما يترتب على ذلك اقتناعنا بأن التطبيق الصحيح لأى خطوه أو اجراء اشتراكى، لا يمكن أن ينجح وأن يبقى، الا باقتناع الأغلبية الساحقة من جماهير شعبنا، وبمشاركتها الإيجابية الواعية.

وأخيرا فأنه يترتب على ذلك اقتاعنا بأن أى تقدم اجتماعى، أو مكاسب اجتماعية، مهما بلغ شأنها، لا ينبغى أ، تتم على حساب ديمقراطية الحكم، وحريات الشعب، وحقوق الانسان، وفى رأينا أن الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان، هى أهداف أصيلة لا تقل شأنا وأهمية فى حد ذاتها عن أية مكاسب اجتماعية، كما أنها وسائل ضرورية لاغنى عنها فى حماية تلك المكاسب، وفى استكمال اهداف النضال الاجتماعى، ولسنا مع القائلين بالتنازل عن الديمقراطية والحريات باسم العدالة الاجتماعية، كما أننا لسنا مع المنادين بالتنازل عن العدالة الاجتماعية باسم الديمقراطية.

والثانى: نحن نرى أن أى تقدم فى تحقيق أو تطبيق الاشتراكية، لابد أن يقوم على ادراك صحيح للواقع الاقتصادى والاجتماعى والثقافى فى بلادنا، وللخصائص الوطنية والقومية المميزة لشعبنا.

واذا كنا من المنادين بضرورة التعرف على كل التجارب الاشتراكية فى مختلف البلاد، ودراستها، والاستفادة من دروسها ونتائجها، ألا أننا لسنا على استعداد لنقل أية تجربة أخرى الى بلادنا نقلا ميكانيكيا أعمى على حساب واقعنا والمصالح الحقيقية لشعبنا، ونحن نرى أن لكل بلد ولكل شعب طريقة الخاص الى الاشتراكية والى التطور الاجتماعى بصفة عامة، وانه على دعاة الاشتراكية ان يكتشفوا وأن يحدوا هذا الطريق.

وفى بلاد كبلادنا، حيث يلعب الانتاج الصغير دورا هاما فى الحياة الاقتصادية، كما تلعب الرأسمالية الصغيرة والمتوسطة دورا وطنيا فى الاقتصاد الوطنى، فانه يتعين مراعاة هذه العوامل الاقتصادية والاجتماعية، وما يترتب عليها من عوامل سياسية، فى عملية التخطيط الاقتصادى والاجتماعى، وفى أيه برامج أو خطط تفصيلية فى هذه المجالات، وينبغى ألا تتخذ من الاجراءات أو الخطوات ما يحول بين هذه الفئات وبين مواصلة الانتاج، بل وزيادته الى أقصى حد مستطاع، مهما كانت الحجج أو المبررات النظرية، طالما أنها تساهم فى الحياة الاقتصادية بدور بناء، وأنها تلتزم بالقوانين والحدود الاجتماعية الرامية الى منع الاستغلال.

وبعبارات أخرى، فنحن نرى أن تبتعد عملية التغيير الاجتماعى عن كل جمود أو تعسف، أو قفز على الواقع والمراحل الضرورية للتطور، ومن ثم عن المآسى والمظالم الانسانية التى تصاحب عمليات التغيير فى كثير من الأحيان.

..........

وفى رأينا أن الخط الأساسى للعمل فى سبيل العدالة الاجتماعية فى المرحلة القادمة لابد أن يشمل عددا من النقاط الاساسية التى يمكن أجمالها فيما يلى:


1- المحافظة على المكاسب والتحولات الاجتماعية التى تم انجازها فى المراحل السابقة وتدعيمها، وفى مقدمتها قانون الاصلاح الزراعى بما يتضمنه من تحديد للحد الأقصى للملكية الزراعية، وتحديد للعلاقة بين المالك والمستأجر للاراضى الزراعية، وما تحقق من قواعد فى قوانين الاسكان لحماية مستأجرى المساكن وغيرها من تعسف وجشع الملاك، وقوانين العمل والتأمينات بما توفره من حماية للعامل.


2- تأكيد دور الدولة فى قيادة وتخطيط وترشيد اقتصادنا الوطنى، وفى توجيه وتنشيط عملية التنمية الاقتصادية الشاملة، ودعم القطاع العام وزيادة دوره وفاعيلته فى الحياة الاقتصادية، وخاصة فى المجال الصناعى بمختلف فروعه، وفى عمليات الإسكان والتشييد واستصلاح الأراضى، وفى التجارة الداخلية والخارجية، بما يضمن انتقال مركز الثقل تدريجيا وبصورة متزايدة الى قطاع الدولة، وبما يؤدى تدريجيا وبصورة طبيعية الى تحقيق عملية التغيير الاجتماعى فى الاتجاه الاشتراكى.

3- التوجه الحاسم نحو حل مشاكل الجماهير، وفى مقدمتها مشاكل التكوين والغلاء، والإسكان، والمواصلات.

4- التصدى الدائم والحازم للنشاطات الطفيلية ولعمليات الاستغلال الاقتصادى لجماهير الشعب، وذلك بفرض التسعير الجبرى لكل السلع والخدمات، وفرض الرقابة الحازمة والفعالة على الأسواق، وعلى عمليات التجارة الداخلية والخارجية، وبما يقلل من دور الوسطاء وأرباحهم ويحمى المستهلك من الاستغلال.

5- العمل المستمر على زيادة نصيب الفئات الكادحة والفقيرة من الدخل القومى، ومن نتائج عملية التنمية الاقتصادية، وذلك عن طريق زيادة الأجور والمعاشات وربطها بمستوى الأسعار، والتوسع فى نشر مظلة التأمينات الأجتماعية وزيادة فاعليتها، والتوسع فى خدمات الصحة والتعليم والثقافة والخدمات الاجتماعية، وتحسين مستواها، وخفض أسعارها فى اتجاه تحقيق مجانيتها كاملة فى أقرب وقت مستطاع.

6- زيادة الضرائب على الدخول العالية، وخاصة على الدخول الناشئة من عائدات التملك، وعلى الاستهلاك الترفى والكمالى، مع تقليل الضرائب على الفئات الفقيرة والمتوسطة، وضمان فاعلية وكفاءة عمليات الربط والتحصيل لتلك الضرائب، بما يؤدى الى زيادة موارد الدولة، وتقليل الفوارق بين الطبقات.

وتمثل النقاط الستة المتقدمة، فى رأينا، برنامج الحد الأدنى، أو الخطوط الأساسية لهذا البرنامج، للعمل الوطنى فى سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية فى المرحلة القادمة.

والله وفى التوفيق.

* * *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق