ثالثا: البلبلة والتشويش الفكرى والسياسى الماثل جذورهما التاريخية وأسابهما الحديثة:

لا يستطيع أحد أن ينكر أو يتغافل عن مدى البلبة والتشويش اللذين باتا يخيمان على حياتنا الفكرية والسياسية فى الوقت الراهن، فمصر تقف الآن فى مفترق طرق عديدة متقاطعة ومتعارضه، وهو ما من شأنه أن يؤدى الى الالتباس وإختلاط الأوراق فى الكثير من أمور حياتنا وتوجهاتنا الداخلية والخارجية.
وترجع هذه البلبة الفكرية والسياسية الى أسباب داخلية عديدة، كما ترجع الى التأثيرات المختلفة للتطورات التى طرأ معظمها على الأوضاع العالمية خلال السنوات العشر الماضية، والتى مازالت تتوالى حتى الآن، والتى تقطع كل المؤشرات بأنها سوف تتزايد فى المستقبل القريب.
_الجذور التاريخية لهذه البلبلة والتشويش الفكرى:
 ترجع الأسباب الداخلية لهذه البلبلة والتشويش الفكرى الى ما مرت به مصر من تغيرات حادة وسريعة فى سياساتها وتوجهاتها الداخلية والخارجية خلال فترة لا تتجاوز الخمسين عاما من الزمان -حين انتقلت- على يد ثورة يوليو -من النظام القديم، نظام السيطرة الإستعمارية والحكم الملكى المستبد الى الاقطاع والرأسمالية الكبيرة المتعاونة مع رأس المال الأجنبى، الى النظام الجمهورى الذى نشأ بقيام الثورة، والذى مر بدوره بتطورات وتحولات حادة وسريعة، باختلاف المراحل التى مرت بها الثورة منذ بدايتها، الى مرحلة حكم الرئيس جمال عبد الناصر، ثم الى مرحلة حكم الرئيس أنور السادات، ثم الى مرحلة حكم الرئيس حسنى مبارك الحالية، خلال هذه المراحل، وتحت تأثير العوامل والمتغيرات الداخلية والخارجية المختلفة، ووفقا لمنهج (التجربة والخطأ) الذى تأثرت به البلاد ومازالت متأثره به حتى الآن، مرت مصر بالكثير من التجارب والبدائل المختلفة -بل والمتناقضة- فى توجهاتها وسياساتها فى مختلف نواحى حياتها.
جربت مصر فى حياتها الداخلية، الحياة الديمقراطية بمفهومها الليبرالى وبتطبيقاتها السطحية والشكلية والجزئية، على ما كان سائدا بصورة متقطعة قبل الثورة، كما جربت الحكم الدكتاتورى العسكرى والبوليسى، والواجهات الديمقراطية الشكلية، وفيما بعد الثورة جربت تعدد الأحزاب، والغاء الأحزاب، ونظام الحزب الواحد، ونظام الأحزاب المحدودة والمقيدة.
جريت الحكم الدستورى غير المستقر، والحكم بلا دستور، والحكم بدساتير مؤقته أو مفروضه من أعلى، أو منقوصة، جربت حرية الصحاية، وتقييد الصحافة بقيود قانونية أو إدارية، أو برقابة ظاهرة أو مستترة.
كما جربت مصر فى حياتها الأقتصادية سياسات عديدة ومتناقضة، جريت الإقطاع وحرية رأس المال، وإطلاق العنان لرأس المال الأجنبى، وحرية التجارة الداخلية والخارجية بلا قيود، وجربت تحديد الملكية الزراعية، وتحديد علاقة مالك الأرض والمستأجر، ومالك السكن والساكن، وسياسة تمصير الماصلح الأجنبية، والتأميم، وتقييد حركة رأس المال، وإقامة رأسمالية الدولة والتوسع فيها، وممارسة نوع من التطبيق الاشتراكى، وبناء قطاع عام كبير، والأخذ بسياسات التخطيط والتوجيه الاقتصادى، والسيطرة على التجارة الخارجية وعلى قسم كبير من التجارة الداخلية، معتمدة فى ذلك على الوسائل والأساليب البيروقراطية، ثم عادت مصر بعد ذلك الى السير فى الطريق العكسى، فانتهجت ما سمى بسياسة الانفتاح الاقتصادى، وفتحت المجال أمام رأس المال الأجنبى، وأمام القطاع الخاص، وأخذت تميل الى الاعتماد فى عملية التنمية الاقتصادية أكثر فأكثر على رأس المال الخاص والأجنبى، والى التقليل من دور الدولة ومن تدخلها فى الحياة الاقتصادية الى أدنى درجة مستطاعة، مع ما يترتب على كل هذه التغيرات فى التوجه الاقتصادى من تأثيرات على السياسات الاجتماعية والتوجهات الثقافية فى كل مرحلة.
وفى السياسة الخارجية، جربت مصر سياسة الارتباط بالغرب، وسياسة التقارب مع الشرق، وسياسة عدم الانحياز، وفى المجال القومى، جربت مصر العمل فى استقلال عن العرب، أو الارتباط الجزئى بالعرب، كما جربت الاندفاع فى التوجه القومى العربى، والانغماس فى مشكلات العالم العربى، ثم ارتدت الى موقف القطيعة مع العرب، ثم عادت الى العمل على استعادة علاقاتها العربية، والى الأخذ بسياسة التضامن العربى.
وهكذا فى كل مجال، تعددت وتناقضت التجارب والسياسات، ولا شك أن ذلك قد أوقع بمصر أضرارا بالغة وساهم بنصيب وافرفى تراكم وتعقد مشكلاتها، وفى ظل مثل هذا التذبذب والتناقض والارتباك، لا يمكن أن يثمر عمل، ولا أن يكتمل بناء، هذا فضلا عما تركته هذه التغيرات الحادة، والمفاجئة أحيانا، من آثار سلبية على توجهاتنا الفكرية والسياسية، وما نشعر به الآن من الاضطراب والبلبلة.
ولسنا من حيث المبدأ من أنصار منهج (التجربة والخطأ) فى قضايا العمل الوطنى، المتعلقة بمصالح ومصائر الشعب، كما أننا نعتقد أن المرجع الأساسى للأخذ بهذا المنهج إنما هو الحكم الفردى المطلق أو شبه المطلق، والذى يتيح للحاكم الفرد أو للأقلية الحاكم أن يسير أو يسيروا بالبلاد فى الطريق الذى يراه أو يرونه -وفقا لمصالحه أو مصالحهم، أو لأهوائه أو أهوائهم، وأن ينتقل أو ينتقلوا بها من سياسة الى سياسة كما يرى أو كما يرون، كما أننا نعتقد أنه اذا كان لبعض هذه التجارب التى مرت بها مصر ما قد يبررها، فإن الكثير منها لم تكن له ضرورة على الأطلاق، أذ أنها كانت واضحة الخطأ منذ البداية ومتعارضه مع حقائق العلم ومعطيات الخبرة التاريخية لشعبنا، ولغيره من الشعوب.

_المتغيرات الحديثة وتأثيرها فى هذه البلبلة الفكرية والسياسية:
 كما ترجع هذه البلبلة الفكرية والسياسية الى التأثيرات المختلفة للتطورات التى طرأت على الأوضاع الدولية خلال السنوات العشر الماضية، والتى مازالت تتوالى، حتى الآن، والتى تقطع كل الدلائل على أنها سوف تستمر وتتزايد فى المستقبل القريب، وتلك هى (المتغيرات الدولية) التى كثر الحديث عنها واشتد الخلاف حولها منذ تلك السنوات، تلك المتغيرات المتمثلة فى أضمحلال النظام العالمى الذى ساد العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والمسمى بنظام القطبية الثنائية، والذى كان يرتكز على التوازن بين الكتلة الشرقية، والكتلة الغريبة، وكتلة عدم الأنحياز، وعلى القانون الدولى، وميثاق الأمم المتحدة، وعلى دور تلك المنظمة بآلياتها المختلفة، والأتجاه المتزايد الى فرض هيمنة الولايات المتحدة، وحلفائها من حلف شمال الاطلنطى، بالأعتماد على القوة العسكرية، والضغط السياسى، والأحتواء الأقتصادى، من خلال سيطرة الشركات العملاقة المتعددة الجنسية، والهيئات الأقتصادية والمالية الدولية الخاضعة للولايات المتحدة، مثل البنك الدولى، وصندوق النقد الدولى، على العالم كله، ويتم ذلك بمختلف الطرق والوسائل، سواء باستخدام مظلة الأمم المتحدة التى باتت خاضعة الى حد كبير لنفوذ وسيطرة الولايات المتحدة، وتحت شعار (الشرعية الدولية) أو فى خروج صريح على تلك الشرعية، وعلى ميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ القانون الدولى، وفى الاتجاه المتزايد الى استبدال دور حلف الأطلنطى، بدور المنظمة الدولية، وبما ينذر بأنتهاء، وشيك لدور تلك المنظمة، وميثاقها، وانهيار كامل للنظام العالمى، وهذا ما يجرى الآن تحت شعار قيام (النظام العالمى الجديد)، (والشرعية الدولية)، واذا كان المحتوى السياسى لهذا النظام العالمى الجديد هو -كما قدمنا- فرض السيطرة العسكرية والسياسية للولايات المتحدة وحلفائها على العالم، فان المحتوى الأقتصادى لهذا النظام هو اطلاق العنان للاستغلال الرأسمالى، على مستوى العالم كله، وعلى مستوى كل بلد على حده، لصالح الشركات الرأسمالية العالمية المتعددة الجنسيات ولصالح الدول الرأسمالية الكبرى، وعلى حساب الأقتصاد الوطنى لباقى الشعوب، وخاصة الشعوب الفقيرة، وعلى حساب الطبقات العاملة والمتوسطة فى كل البلاد، ويتم ذلك تحت شعارات (العولمة)، (وحرية التجارة)، وباستخدام اتفاقيات (الجات) والدعوة الى (الخصخصة) والأخذ بنظام (أقتصاد السوق)، والتقليص المتواصل لدور الدولية فى الحياة الأقتصادية، والتصفية المتسارعة للقطاع العام فى كل البلدان، ويصاحب هذا كله، تصاعد كبير فى الدعوة الى تعميم الديمقراطية السياسية، ونشر الحريات، والالتزام بحقوق الانسان، وهى دعوات بتبناها الرأى العام العالمى، وكثير من المنظمات والجمعيات الأهلية، المحلية والأقليمية والعالمية، كما تتبناها منظمة الأمم المتحدة، والهيئات التابعة لها، بتشجيع واضح من الدول والحكومات ذات النفوذ الأكبر فى تلك المنظمة، وتستخدم هذه الدعوة فى كثير من الأحيان كوسيلة للضغط على بعض الدول واحراجها، بل والتدخل فى شئونها الداخلية بحجة انتهاكها للديمقراطية والحريات وحقوق الانسان، أو حمايتها للارهاب، ويجرى ذلك بصورة انتقائية ووفقا لمعايير مزدوجة، وتحكمها الاعتبارات السياسية، والمصالح والأغراض، أكثر مما يحكمها الالتزام بتلك المبادئ الانسانية السامية، وهو ما أصبح يشكل هو والدعوة الى العولمة الاقتصادية تهديدا متزيدا لاستقلال وسيادة ومصالح الأصغر أو الأضعف، أو الأكثر فقرا.
كذلك فأن من أهم المتغيرات التى طرأت على عالمنا المعاصر، هى تلك الثورات المتلاحقة والمتسارعة، التى وقعت ومازالت تقع فى المجال المادى لحياة الانسان، مثل الثورة العلمية والتكنولوجية وثورة المعلومات، وثورة الاتصالات، وهو ما أصبح يمثل عوامل ضغط هائلة للتغيير فى الأسس المادية والمعنوية لحياة الانسان فى مختلف المجتمعات.
وتصاحب ذلك كله موجات متصاعدة من الضغوط والدعايات المستمرة لاعادة تشكيل الواقع الاجتماعى، والأبنية الفكرية والثقافية والنفسية فى كل البلاد بما يتفق مع هذه التوجهات، وذلك تحت شعار الاستجابة أو الانصياع (للمتغيرات الدولية)، وينتج عن الترويج لهذا الشعار، وما يتصل به من أفكار وسياسات وتوجهات، وما يثيره ذلك كله من آثار وردود أفعال وخلافات فى الرأى، وتفاقم حالة البلبلة والتشويش والاضطراب واختلاط الأوراق، التى تعانى منها البلاد، والتى تترك آثارا واضحة على حالتنا الفكرية والسياسية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق