3- حول قضية الديمقراطية فى مصر


القضية الأساسية الثانية من قضايا العمل الوطنى، هى قضية التخلص من بقايا الاستبداد والحكم المطلق الموروثه من عهود الاقطاع والاستعمار والتبعية، وانجاز تحول ديمقراطي شامل وعميق فى كل نواحى حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهى قضية عظيمة الأهمية سواء فى حد ذاتها أو فى ارتباطها الوثيق بمختلف قضايانا الأساسية الآخرى.
ومما يؤسف له، أنه كان هناك دائما فى صفوف حركتنا الوطنية، سواء قبل ثورة يوليو أو بعدها، من لا يؤمنون بأهمية أو بضرورة هذا التحول الديمقراطى، ومنهم من كان مقتنعا بفكرة الدكتاتورية الثورية أو حتى بفكرة المستبد العادل.. إلخ، وفى رأينا ان مثل هذه الأفكار، وما يترتب عليها من نتائج، كان لها مردود سلبى بالنسبة لمجمل نضالنا الوطنى والاجتماعى.
ولعل التجربة قد أثبتت لنا الآن، وبما لا يدع مجالا للخلاف، أن النضال من أجل الديمقراطية هو جزء لا يتجزأ من نضالنا فى سبيل التحرر الوطنى، وفى سبيل التقدم الاقتصادى والاجتماعى والثقافى، وفى رأينا أن التجربة قد أثبتت أنه لا يمكن الحفاظ على استقلالنا الوطنى، وعلى سلامة ووحدة أراضينا، كما لا يمكن ضمان التقدم الحقيقى فى أى ناحية من نواحى حياتنا، الا من خلال حكم ديموقراطى راسخ، ومناخ ديمقراطى صحى، ومشاركة شعبية كاملة، ومهما كانت كفاءة الحاكم أو درجة اخلاصه أو حسن نواياه، فأن الشعب نفسه هو الأكثر قدره على الدفاع عن الوطن، وعلى البناء والعطاء من أجل الحاضر والمستقبل.
ويكاد لا يوجد عيب أو نقص أو نقطة ضعف فى حياتنا السياسية أو الأقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الأخلاقية، الا ويلعب الفراغ الديمقراطى دورا أساسيا فى وجوده أو فى استمرار بقائه.
ان التحول الديمقراطى المطلوب، لابد أن يكون تحولا شاملا وعميقا، بمعنى أنه لابد أن يمتد الى كافة نواحى حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وربما يكفل اعادة صياغتها بصورة كاملة على أسس ديمقراطية سليمة ونهائية وراسخة، غير أن تحقيق هذا التحول الديمقراطى العميق فى حياتنا السياسية هو حجر الأساس فى البناء الديموقراطى الشامل، فالديموقراطية السياسية هى الحلقة الرئيسية فى سلسلة التحولات الديمقراطية المطلوبة،
ان قضية الديمقراطية السياسية قضية واسعة ومتشعبة، وهى تتصل بالعديد من القضايا والمسائل الهامة، تتصل بنظام الحكم، وبأوضاعنا الدستورية والقانونية والقضائية، وبالحقوق والحريات الديمقراطية السياسية والشخصية، وهى تتصل بالنصوص التشريعية، ولكنها تتصل أيضا، وربما بدرجة أكبر، بالتطبيق والممارسة الديموقراطية، وبالمناخ الديموقراطى العام.
ومصر قد حرمت من الديموقراطية السياسية بصورة فظة وقاسية، سواء على يد الاستعمار والاقطاع والملكية، أو على يد بعض أبنائها قبل وبعد ثورة يوليو سنة 1952، مما عاق تطورها وأجهض الكثير من ثمرات نضالها.
فمنذ سنة 1923، أى منذ نحو ستين عاما، ولدى مصر دستور، ولكن هذا الدستور كان دائما عرضه للايقاف والألغاء والاستبدال، بحيث أن مصر لم تحظ بالحياة الدستورية -ولو بصورة نسبية- الا لفترات قصيرة ومتقطعة، ولدينا منذ عهد طويل مجالس نيابية، ولكننا تعودنا دائما على حل هذه المجالس، كما تعودنا على تقييد سلطاتها، أو على الالتفاف حول هذه السلطات سواء باصدار التشريعات فى غياب المجالس النيابية أو من فوق رؤوسها عن طريق ما يسمى بالاستفتاءات، وكثيرا ما أعطيت السلطة التنفيذية لنفسها حق الاعتراض على حرية المواطنين فى الانتخاب أو الترشيح للمجالس النيابية، المركزية أو المحلية، أو حتى لمجالس النقابات العمالية والمهنية وغيرها من الهيئات، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل لقد عرفنا فى السنوات الأخيرة ظاهرة جديدة هى ظاهرة اسقاط العضوية عن أعضاء المجالس النيابية الذين انتخبهم الشعب، وبطريقة فظة ولأسباب واهية، ومازلنا جميعا نذكر وقائع وملابسات عمليات اسقاط العضوية هذه، وكيف كانت تترك جراحا دامية فى قلب الديموقراطية المصرية، وتحكم على مجلسنا النيابى، وعلى حياتنا الديموقراطية كلها، بما من شأنه أضعاف، أن لم يكن قتل، الثقة بنزاهتها.
ومع البديات الأولى لحياتنا النيابية، ظهر لدينا "فن جديد" هو فن التأثير على الانتخابات، بل وتزوير نتائجها، حتى أصبح هذا التزوير بمختلف صورة وأشكاله هو الأصل، بينما أصبحت الانتخابات الحرة النزيهة هى الأستثناء الذى لا يقاس عليه، والذى لا يصدقه معظم الناس لفرط ندرته وخروجه على المألوف، فالذى أصبح مألوفا عندنا هو أن تكون نتائج الاستفتاء المعلنة هى 99% أو أكثر، بينما يعلم كل الناس أن الأغلبية الساحقة من المواطنين لم تقبل على تلك الاستفتاءات، ولم تشارك فيها أصلا.
وكل هذه الظواهر السلبية قد أساءت أبلغ الأساءة الى حياتنا الدستورية والنيابية، اذ جعلت منها مسخا شائها، وأفقدت الجماهير الثقة فى جديتها.
ومصر بلد ديموقراطى كما ينص عليه دستورنا، ومع ذلك فأن لدينا من النصوص القانونية والقوانين الأستثنائية السالبة للحقوق والحريات الديموقراطية ما ينوء به كاهل الديموقراطية فى أى بلد من البلاد، ويكفى أن نتذكر قانون الوحدة الوطنية، وقانون الأحزاب، وقانون الصحافة، وقانون العيب، وقانون المدعى الاشتراكى، وقوانين يناير 1977... إلخ، وهى قوانين تصادر كل الحريات، وكل الحقوق الديموقراطية التى تعارفت عليها كل الدول الديموقراطية، والتى نصت عليها المواثيق الدولية ولوائح حقوق الانسان.
وهذه القوانين تقيد حق انشاء الأحزاب، وحق اصدار الصحف الى درجة المصادرة العلمية لهذه الحقوق، كما تلغى الاضراب وحق التظاهر السلمى وغيرها من الحقوق، وتجعل العقوبة على ممارسة أى منها تصل طبقا للنصوص الى الأشغال الشاقة المؤبدة، ولدينا من النصوص ما يمكن لفرط "مرونتها" أن تطبق على أى إنسان لا ترضى عنه السلطة مثل قانون العيب وقانون المدعى الاشتراكى، التى تضع الأشخاص الذين يراد تطبيقها عليهم تحت طائلة "التحفظ" و "الحراسة" لمدد قد تصل الى خمس سنوات، حتى قبل أن يصدر بشأنها حكم قضائى.
وفى مصر -على عكس ما ينادى به معظم رجال القانون الديموقراطيون، وعلى عكس ما هو مطبق فى كثير من الدول الديموقراطية- يقوم لدينا نظام الحبس الاحتياطى فى القضايا السياسية وفى بعض جرائم الرأى، حيث يظل المهتمون محبوسين أما بأمر من النيابة أو بناء على طلبها مددا قد تصل الى شهور عديدة، وهو ما يعتبر عقوبة فى حد ذاته تطبق عليهم مقدما حتى لو ثبتت براءتهم بعد ذلك، وبموجب نظام المدعى الاشتراكى يمكن للشخص أن يوضع أيضا تحت "التحفظ فى مكان أمين" -وهو السجن غالبا لمدد قد تصل الى خمس سنوات، وفى ظل الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ، يمكن اعتقال أى شخص، لأى مدة، بأمر من وزير الداخلية، فاذا علمنا أن بلادنا قد عاشت معظم تاريخها الحديث فى ظل الأحكام العرفية، لأدركنا مدى التهديد الذى له حرية الناس فى بلادنا.
وفى مصر قضاء تفخر بمثله أيه أمة، وقد أثبت كفاءته ونزاهته وشجاعته فى كل العهود، ومع ذلك فإن هناك ميلا دائما للانتقاص من سلطاته ولسلب ولايته فى القضايا السياسية أو شبه السياسية، ولايجاد نظم أستثنائية بديلة تمارس سلطات الادعاء والحكم فى تلك القضايا، كما هو قائم فى محاكم أمن الدولة أو نظام المدعى الاشتراكى أو محاكم القيم، وكل هذا يمثل انتقاصا من الضمانات القضائية لحقوق وحريات المواطنين.
ان المبادئ التى تكفل ديموقراطية الحكم وحريات المواطنين وحقوق الانسان هى مبادئ واضحة وعروفة لنا جميعا، كما أن النواقص ونقاط الضعف التى تعانى منها الديموقراطية السياسية فى مصر واضحة ومعروفة لنا دميعا، ونحن فى حاجة الى وقفة حاسمة لازالة كل العراقيل أمام الديموقراطية المصرية ولارساء دعائمها مرة واحدة والى الابد، ولاحاطة الممارسة اللاديموقراطية فى مصر بما هى فى مسيس الحاجة اليه من الضمانات، نحن فى حاجة الى عملية مراجعة شاملة وعميقة وعاجلة لدستورنا، ولكل قوانيننا، ونظمنا القضائية، على ضوء المبادئ الديموقراطية الكاملة، وهذه عملية تاريخية ينبغى القيام بها بجهد قومى عام، لذلك فنحن ندعو الرئيس حسنى مبارك الى المبادرة بتشكيل لجنة قومية عليا تشارك فيها كل الخبرات القانونية، وكل الاتجاهات السياسية فى بلادنا، توكل اليها هذه المهمة التاريخية، وبحيث يتم بعد ذلك اقرار ما تنتهى اليه من نتائج بالطرق القانونية والدستورية الصحيحة.
ان حرية وديموقراطية المؤسسات والتنظيمات النقابية هى جزء لا يتجزأ من الديموقراطية السياسية، ونحن فى حاجة الى توفر وحماية الحريات والحقوق الديموقراطية فى كافة المجالات وعلى كل المستويات النقابية، العمالية والمهنية، والى مراجعة كافة القوانين المتعلقة بها، والى وضع الضمانات الكافية لحمايتها من أى تدخل أو انتقاص.
ونحن فى حاجة الى اعتماد الديموقراطية كمنهج أساسى لنظامنا الادارى، وخاصة فى الادارة الاقليمية والمحلية، ومراجعة كافة نظمنا فى هذه المجالات على ضوء هذا الاتجاه.
ونحن فى حاجة الى اعتماد الديموقراطية كمنهج للادارة الاقتصادية، وخاصة فى القطاع العام، والقطاع التعاونى، والى ايجاد الصيغ والأشكال اللازمة لتحقيق ذلك، بما يكفل المشاركة الفعلية للعاملين فى ادارة المنشئات، وفى وذع خطط الانتاج، وفى الرقابة على تنفيذها، ولعل هذا يكون وسيلتنا الأولى الى اصلاح الادارة الاقتصادية فى بلادنا، والى التخلص من عيوب القطاع العام.
ونحن فى حاجة الى مراجعة الكثير من أوضاعنا الاجتماعية وخاصة بالنسبة لدور المرأة فى الأسرة، ومع المجتمع، وفى الحياة الاقتصادية، وذلك على ضوء الموقف الديموقراطى والمعايير الديموقراطية، وما لم تتحول الممارسة الديموقراطية الى أسلوب كامل لحياتنا الاجتماعية، فسوف تظل الديموقراطية السياسية فى مصر ناقصة ومهددة بصورة دائمة.
ونحن فى حاجة الى صبغ التعليم والثقافة فى بلادنا بالصبغة الديموقراطية الأصيلة لدى النشء، وبما يكفل تدريبهم منذ الصغر على ممارسة الديموقراطية فكرا وتطبيقا، كما يتعين علينا أن نقوم بمراجعة كاملة لأساليب وبرامج العمل، بما يخدم عملية التوعية الكاملة والدائمة للمواطنين بأهمية الديموقراطية، وبأهمية تمسكهم بحقوقهم وحرياتهم الديموقراطية، وبكيفية التوفيق بين ذلك وبين الحرص على الصالح العام، وعلى حقوق وحريات الآخرين.
* * * *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق