كتاب رسائل سياسية

يتضمن هذا الكتاب الرسائل السياسية التى كتبها الشاعر محمود توفيق فى مرحلة من حياته فى فترة الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين.

وتتضمن الرسائل السياسية الآتية:





الرسالة الأولــى

رسالة عن الجبهة الوطنية الديموقراطية ودور الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى فى الدعوى إلى إقامتها، 
نص مقال للأستاذ محمود توفيق نشر بجريدة الأهرام يوم 1985/9/14.

نص مقال للأستاذ محمود توفيق

فى السادس من يوليو الماضى -وفى أعقاب ما سمى، بالمسيرة الخضراء، وما اتصل بها من أحداث وما أثاره كل ذلك لدى الكثيرين من احساس بتصاعد مخاطر الفتنة الطائفية والأرهاب المتستر بمسوح الدين -نشر الاستاذ عبد الرحمن الشرقاوى بجريدة الأهرام مقالا بعنوان "لابد من الجبهة".
فى هذا المقال أوضح الاستاذ الشرقاوى رأية فى ظاهرة تصاعد الأرهاب الفكرى والسياسى باسم الدين ومدى ارتباط هذا الأرهاب بمخططات أجنبية خفية وشريرة، وبنشاط العناصر المرتزقة والمأجورة التى تعمل فى خدمة تلك المخططات، وحذر الشرقاوى من الأرتباط الواضح بين ما يرد حدوثه فى مصر من جراء تصعيد الارهاب باسم الدين، وما سبق حدوثه فى ايران وفى لينان، على أيدى مثل هذه القوى والعناصر وماجره ذلك على البلدين، وعلى المنطقة كلها من عواقب.
وانتهى الشرقاوى من ذلك الى توجيه الدعوة الى شعب مصر، ممثلا فى كل القوى الوطنية وكل الأحزاب السياسية، وكل المثقفين ممثلى القوى الشعبية من مختلف الآراء والأتجاهات، الى التضامن فى جبهة وطنية قوية، لانتشال الأمة وانتشال انفسهم وابنائهم من هول الفتنة.
وأضاف الشرقاوى فى بيان أهداف الجبهة، أننا ندعو الى جبهة وطنية صلبة من كل الأحزاب ومن غير المنتمين الى أحزاب، ومن كل الاتجاهات والأفكار والعقائد، لتتفق على طريق واحد تقود الوطن الى الأمن، وتوفير الكفاية لكل المواطنين، ولكفالة العدل، وحماية الحرية، والمصير..
ثم قال: "أنه لا حل لمشاكل الوطن إلا من خلال هذه الجبهة الوطنية، إلا بالأستفادة بكل الآراء والأفكار والطاقات".
______________
نشر هذا المقال بجريدة الأهرام بعددها الصادر فى 1985/9/14 تعليقا على مقالات الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى الداعية الى إقامة الجبهة الوطنية وعلى موقف حزب التجمع من تلك الدعوة.

1- مزيد من الايضاح لطبيعة الجبهة واهدافها

وفى مقال ثان نشر بجريدة الأهرام بتاريخ 1985/7/13 تحت عنوان "لمن شرف المبادرة" عاد الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى الى تأكيد فكرته وزيادتها ايضاحا، فقرر أنه يوجه دعوته الى كل القوى السياسية والاجتماعية على اختلاف الآراء والأفكار والعقائد، والى كل من يشعر بالمسئولية فى أى موقع الى انشاء الجبهة الوطنية، وان طريق الجبهة هو طريق الخلاص، ولا خلاص فى غير هذا الطريق، ولا حماية للوحدة الوطنية ولمصالح هذا الوطن إلا بإنشاء حصن حصين هو الجبهة.
وقرر الاستاذ الشرقاوى أنه لا يستثنى أصحاب الأتجاهات الدينية من المشاركة فى الجبهة، ثم عاد إلى أهداف الجبهة فزادها بيانا على النحو التالى:
 وأما هدف الجبهة فهو: "الأتفاق على ما هو مشترك، على أرض للقاء تتحصن فيها القوى المختلفة، دفاعا عن حقوق المواطن، وحرياته، وكرامته، ومتقبله، وعن مصير الوطن نفسه".
ثم زاد أهداف هذه الجبهة تفصيلا على النحو التالى:
 "ولا ريب أن كل القوى مهما تختلف، تتفق على حق الوطن فى الأمن والسلام أمام كل الأعداء".
وهى تتفق على وجوب كفالة حق المواطن فى أن ينعم برغد العيش، وبالمسكن الصالح، وفى أن تحافظ الدولة على كرامته، وان تضمن له التعليم المفيد، والثقافة التى تضئ بها النفس وشرق بها العقل، فضلا عن كفالة حقه فى العدل وفى المساواة، وفى الحريات الديمقراطية وأولاها حرية التعبير، على أساس مطمئن من الرعاية الصحية، والاجتماعية، ومن تكافؤ الفرص، ومن ضمان مواصلات مريحة، وخدمات ميسرة، وجو هادئ يتنفس فيه وينتج، ولا تلوثه الضوضاء أو الغازات السامة المتراكمة من عوادم السيارات والموتوسيكلات.
ثم يعمد الاستاذ الشرقاوى الى تأكيد عدد من المبادئ العامة التى تشكل الأساس السياسى والاجتماعى للجبهة كما يلى: 
 "ما من أحد من الأحزاب السياسية أو القوى الاجتماعية يختلف حول وجوب النضال دفاعا عن استقلال الوطن وسلامته وأمنه، أو يختلف حول وجوب العمل الدائب فى كل نهار وليل لتوفير السعادة والعدالة والسكينة والطمأنينة لكل مواطن..".
ما من حزب يدعو الى سيادة طبقة.. أو يبارك استغلال طبقة، ما من حزب يدعو الى تمييز أو تمايز بين طبقات الأمة.. وما من حزب يدعو الى افقار الفقراء.. والى اثراء الأثرياء.. وما من حزب يمكن أن يدعو الى التفرقة أمام القانون فى الحقوق والواجبات".
 "وما من حزب يدعو الى انتهاك حرمات الوطن.. أو الى قهر المواطن.. والى ظلم فئة لحساب فئة،..
 "وما من حزب يدعو الى أن يكون الوطن خاضعا لاحدى القوى الأجنبية.. أو يدعو الى ما ينتهك حريات الوطن"..
 وأخيراً فإن الأستاذ الشرقاوى يلخص فكرته عن الجبهة فى دوافعها وأهدافها بقوله: "الجبهة ليست فى ذاتها هى الهدف أو الغاية، ولكنها الوسيلة الوحيدة الى أنبل غاية، "رفعة الوطن، ورفاهية الوطن".
**      **      **

2- البعد القومى للجبهة الوطنية

لا يكتفى الاستاذ الشرقاوى بما اقترحه أساسا للجبهة الوطنية المصرية، فهو يشير فى النهاية الى المضمون القومى الواجب لهذه الجبهة فيقول:
 "والحديث عن الجبهة الوطنية المصرية يذكرنا بأهمية الجبهة القومية العربية، فما انتهكت حقوق العرب الا منذ تفرقوا، ويسرد الشرقاوى كيف ارتبطت مراحل المؤامرة الاستعمارية الصهيونية على العرب بتمزقهم، وينتهى من ذلك الى القول: "وهكذا ساعد التمزق العربى على نجاح الارهاب الامريكى الاسرائيلى.. فليست الولايات المتحدة وحدها هى التى غرست الارهاب الاسرائيلى فى بلادنا ثم حمته من ادانة مجلس الأمن.. لقد فعلت الادارة الامريكية كل هذا حقا.. ولكنها ما كانت لتستطيع أن تفرض الأرهاب الاسرائيلى وتحمية لو كان العرب جبهة واحدة صلبة".
**         **       **
وهكذا نرى أن عبد الرحمن الشرقاوى يطرح على الجبهة المقترحة كل القضايا والمهام الأساسية فى حياتنا والتى تتدرج من القضية الوطنية ببعدها القومى، الى قضايا الديمقراطية فى جملتها وتفاصيلها الى القضايا الطبقية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية برمتها، وأخيرا الى قضايا البيئة وحمايتها، بل ان عبد الرحمن الشرقاوى قد عاد فى مقال له بالأهرام نشر فى 1985/8/24 بعنوان: "أنت لا تنزل الى النهر مرتين" ليستعرض العديد والمزيد من المشكلات المطروحة على الجبهة المقترحة، مثل: التلوث، والقذارة، والضوضاء، والمواصلات، والاسكان، والنظافة، والغذاء، والكساء، وسائر المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (الاخلاقية وسلبيات السلوك الاجتماعى، وينوط بالجبهة المقرتحة علاج كل هذه الأدواء مطالبا الجميع بالتكاتف بلا تحزب ولا تعصب للعمل على إيجاد الحلول لمشاكل هذا الشعب.
كيف يوضع برنامج الجبهة؟
ومع كل ما يقترحة الاستاذ الشرقاوى كأهداف للجبهة وكمهام مطروحة عليها، فهو لا يزعم أنه يطرح برنامجا لها، بل يترك وضع هذا البرنامج لقوى الجبهة كلها، ويقول فى ذلك:
 "لابد من أن ينهض أحد الاحزاب السياسية أو ممثلو احدى القوى الاجتماعية لوضع الأهداف الوطنية المشتركة، ودستور العمل".
وبيسأله الأستاذ عبد الستار الطويل فى حوار معه نشر بجريدة السياسى فى 1985/7/28 عن برنامج تلك الجبهة كما يتصوره، فيجيب بقوله:
 "أنا ممتنع تماما عن طرح أى برنامج لها.. أن على كل القوى السياسية أن تجتمع وتطرح هى أفكارها وتصوراتها وتتفق حول ما تتفق عليه ليصبح برنامج الجبهة".
ويفسر موقفه هذا بقوله:
 "أن المشاكل ضارية فتاكة تصيب ابناء الوطن بالاحباط، وما من حزب واحد لدية حل نهائى لهذه المشاكل جيمعا، ولكن تلاقى الافكار، وتحاورها سينتج حلاً شافياً بلا جدال.. ربما كان لدى كل حزب الحل الأمثل لمشكلة ما، ولكن ما من حزب لدية حلول سحرية لكل المشاكل".
* * *

3- الشرقاوى.. والموقف الجبهوى

ان عبد الرحمن الشرقاوى حين يتوجه الى شعبه بهذه الدعوة، لا يقوم بعمل طارئ أو مفاجئ وانما يصدر فى ذلك عن موقف ثابت له معروف عنه للجميع.. وقد عبر عن ذلك فى مقاله الأول بجريدة الأهرام بقوله: "لقد طالما دعوت الى جبهة وطنية صلبة.. فهل جاء الوقت؟"
 ويذكر الجميع للاستاذ الشرقاوى أنه قد انتهج دائما الخط الوطنى، الجبهوى والتوحيدى وانه قد وضع هذا الخط موضع التطبيق فى قيادته لمجلة روز اليوسف فى السبعينات ودعوته المستمرة للحوار والوفاق الوطنى بديلا للصراع العدائى المدمر العقيم، ويذكر الجميع أن الشرقاوى قد دعا لهذا الحوار فى أشد الظروف حرجا وتعقيدا عام 1979، رغم ما لقيه فى سبيل ذلك من عنت وارهاق.
ويذكر الجميع أن الشرقاوى قد انتهج هذا الخط الوطنى الجبهوى والتوحيدى فى رياسته للجنة التضامن المصرية، ولحركة التضامن الدولية، مما احال اللجنة المصرية للتضامن من كيان رمزى محدود، الى كيان وطنى جبهوى، واسع ومحترم.
والشرقاوى بمواقفه هذه قد ساهم أكبر مساهمة فى ارساء خط أساسى لليسار الوطنى فى مصر، هو خط التمسك المخلص والدائم بالموقف الوطنى الجبهوى والتوحيدى.
والى جانب هذا الموقف المبدئى، فان الشرقاوى يستمد موقفه الجبهوى من تراث الحركة الوطنية المصرية، ومن تراث اليسار المصرى وهو يقول فى ذلك:
"هذه الدعوة ليست جديدة، فمخزون الحركة الوطنية المصرية عامر بتجارب اقامة جبهات وطنية منذ أيام سعد زغلول ثم مصطفى النحاس".
ويقـــول:
"ثم ان اليسار المصرى تبنى تلك الدعوة بعد الحرب العالمية الثانية، واثمرت الدعوة تشكيل الجبهة الشهيرة باسم اللجنة الوطنية للطلبة والعمال".
وهو يعتقد، أنه ما من مفكر أو سياسى مخلص يمينيا كان أو يساريا، الا ودعا الى تلاحم وتراص قوى الشعب لمواجهة أية مشاكل جادة يواجهها الوطن.
وهو فى دعوته الدائمة الى الجبهة ليس حالما أو خياليا.. فهو لا يصور أن مجرد ادعوة الى الجبهة أو حتى قيامها سوف ينهى كل الخلافات والتناقضات بين أطرافها بل هو مدرك تماما لطبيعة العلاقات الجدلية التى تنشأ داخل هذه الجبهة فيقول:
 "ان الدعوة الى الجبهة لا تنفى وجود الخلافات، فالجبهات تقوم على مبدئين: الوحدة والصراع.. أى الاتفاق والخلاف معا".
والشرقاوى -يصدر فى دعوته الحالية الى الجبهة- عن تقدير واقعى وسليم للوضع السياسى الراهن فى البلاد، وان الحكومة الحالية وحزبها لا يستطيعان وحدهما أن يحلا المشكلات الكبيرة، والعديدة والمعقدة التى تواجهها البلاد، فيقول فى ذلك:
 "والحزب الوطنى لا يستطيع أن يزعم أنه يمثل كل ما فى مصر من عقائد، ومن فئات وطبقات وآراء وأفكار.. ولو كان للحزب الوطنى من النشاط ما يجب أن يكون لحزب يتمتع بالاغلبية البرلمانية لما استطاعت الدعوات المشبوهة أن تدمر عقول بعض الناس باسم الدين".
وهو يشير الى احتياج البلاد الى جانب الجبهة الوطنية الى حكومة ائتلافية فيقول:
 "على أن الحكومة الائتلافية ليست بالصيغة التى نفرغ منها، فربما كانت هى التعبير الحى الفعال على الجبهة الوطنية".
* * *

4- لماذا رفض حزب التجمع الجبهة؟

ولم يكن عبد الرحمن الشرقاوى -اذن- فى دعوته الى أقامة الجبهة الوطنية وفى تصوره لأسس قيام هذه الجبهة وأهدافها معبرا عن ذاته فقط، وانما كان معبرا فى نفس الوقت عن افكار ومواقف اليسار المصرى بصفة عامة، أو على وجه التحديد، عن افكار ومواقف التيار الغالب فى هذا اليسار، والذى نسمية "اليسار الوطنى" وهو التيار الأكثر وعيا ونضجا وشعورا بالمسئولية، وارتباط بحياة وتراث ومصالح ومشاعر الشعب المصرى.
لذلك فقد كان طبيعيا أن يبدى هذا التيار ارتياحه وتأييده لدعوة الاستاذ الشرقاوى الى اقامة الجبهة الوطنية وللأسس والأهداف التى اقترحها لهذه الجبهة، معتبرا أن الاستاذ الشرقاوى انما كان فى ذلك نائبا عن اليسار المصرى، ومتحدثا بلسانه.
وقد جاءت ردود الفعل الايجابية لهذه المقالات فى أوساط اليسار المصرى، ولدى الغالبية العظمى من ممثليه معبرة عن هذا الموقف، وظهر ذلك فى بعض الكتابات التى نشرت فى الصحف فى حينها ولاشك فى أن الفترة القريبة القادمة، سوف تشهد المزيد من مظاهر التعبير عن هذا الموقف.
غير أنه فى مواجهة هذا الموقف الايجابى للتيار الغالب داخل اليسار المصرى وهو تيار اليسار الوطنى كان هناك موقف آخر للتيار الأخر داخل هذا اليسار وهو الذى نسمية "اليسار المغامر" وبقدر ما يتسم به اليسار الوطنى من روح ايجابية ومنهج جبهوى توحيدى بقدر ما يتسم اليسار المغامر بالسلبية، وبالمواقف الانعزالية والانقسامية.

5- حزب التجمع يرفض الجبهة

ففى 31 يوليو سنة 1985 نشرت جريدة الأهالى تصريحا لمتحدث رسمى باسم حزب التجمع يقول فيه:
 "ان الحزب لم يقرر الاستجابة لهذه الدعوة ولم يتفهم -بعد- لا الدوافع ولا اساس الذى يمكن أن تقوم عليها مثل هذه الجبهة".
وبعد كل ماكتبه الشرقاوى شرحا لدعوته وبيانا لدوافعها، ولاسس وأهداف الجبهة التى يطالب بها كما ذكرنا فيما سبق فان المرء يحتاج الى قدر غير عادى من القدرة على عدم الفهم أو القدرة على ادعاء عدم الفهم، حتى يستطيع أن يقول ما قاله المتحدث الرسمى بلسان حزب التجمع.
وعلى أى حال فسرعان ما اتضح أن الدعاء عدم الفهم هذا لم يكن الا ستارا للرفض القاطع من جانب حزب التجمع لدعوة الاستاذ الشرقاوى للجبهة فى جملتها وتفاصيلها، وسرعان ما أعلن الحزب عن موقفه هذا فى مقالين متتاليين لرئيس تحرير مجلة "الأهالى" نشرا بها فى 21 و 28 أغسطس الماضى بعنوان "حوار عبد الرحمن الشرقاوى، وهو حوار جرى من جانب واحد، اذا لم يحضره الاستاذ عبد الرحمن الشرقاوى نفسه ولم يعلم به".
لقد أجهد رئيس تحرير الأهالى نفسه واجهد قراءة فى شرح وتبرير موقف الحزب من دعوة الاستاذ الشرقاوى، فأورد الكثير مما يمكن تفنيده والرد عليه، ولكننا لسنا بحاجة الى الرد على كل ما نعارضه أو نعترض عليه مما جاء فى مقال السيد رئيس التحرير وسوف نكتفى بمناقشة بعض النقاط الجوهرية فيما كتب.
من بين كل ما قاله السيد رئيس تحرير الأهالى تبرز أمامنا العبارة التالية لتلخص لنا موقف الحزب:
"أننا نرفض تحديده للعدو والاطراف الجبهة وعدم وضوح أهدافها".
وقد أوضحنا كيف افاض الاستاذ الشرقاوى فى بيان الدوافع التى تحدو به الى الدعوة لاقامة الجبهة، ولعل القارئ قد لمس أن هذه الدوافع هى دوافع طبيعية جدا بل وبدهيةوانها كافية ومقنعة جدا لكل من يريدأن يقتنع ولكن المتحدث الرئيسى لحزب التجمع ورئيس تحرير جريدته يصران على عدم الاقتناع بصحة هذه الدوافع أو بوجاهتها وكأنه لابد من وجود دافع خفى، أو تآمرى وراء كل سلوك حتى ولو كان سلوكا طبيعيا.
والواقع أن ما يثير الدهشة حقا ويدعو الى البحث عن الدوافع الخفية، ليس هو مطالبة الاستاذ الشرقاوى بإقامة الجبهة الوطنية، بل هو رفض حزب التجمع لهذه الجبهة.
ويقول رئيس تحرير الأهالى:
 "أن هذا التحديد الواضح للعدو، والهدف من الجبهة، يحدد أيضا أطرافها".
كما يقول:
 "فنحن نرفض تحديده للعدو، ولا نوافق على تحديدة لقوى الجبهة، ولا نفهم الهدف منها". 
وحتى يستقيم المنطق فى هذه المعادلة، فليسمح لنا رئيس تحرير الاهالى بأن نعيد ترتيب عناصرها فنقول: أن التحديد الواضح لاهداف الجبهة هو الذى يحدد اطرافها، كما يحدد أعداءها.
ولقد افاض الاستاذ الشرقاوى كما أوضحنا من قبل فى تحديده لاهداف الجبهة ومهامها، مع ذلك فان حزب التجمع يصر على عدم الفهم، يصر على أن ما جاء فى مقالات الاستاذ الشرقاوى فى هذا الصدد ليس الا "مجموعة من الكلمات العامة التى لا تحدد هدفا بذاته وانما تكتفى بشعارات مطلقة تحمل أكثر من معنى وتفسير".
ويقول الاستاذ الشرقاوى: "أنه لا يضع برنامجا للجبهة بل هو يترك هو يترك ذلك لقوى الجبهة ذاتها وهو بذلك يترك الأمر للاتفاق بين أطراف الجبهة، ومع ذلك فان حزب التجمع لا يريد أن يتخذ من الامر كله الموقف الايجابى البناء.. فيبدى استعداده لبذل جهده فى ايضاح واستكمال برنامج الجبهة، بل على العكس فانه لا المتحدث الرسمى باسم الحزب ولا رئيس تحرير جريدته يتمهل ويعطى لنفسه أو لحزبه الفرصة لكى يختبر مدى جدية الأمر، ومدى امكان العمل على استكمال النواقص التى يراها فيه".

6- من هم أعداء الجبهة

يصر رئيس تحرير الأهالى على: أن "الاستاذ الشرقاوى لم يترك مجالا للشك فى أن الجبهة التى يدعو اليها موجهة ضد الجماعات الدينية المتطرفة وصناع وتجار الدين والمرتزقة الذين يغترفون من أموال اعداء مصر".
 ومن البداية فأننا تصحيحا للوقائع نؤكد أن الأستاذ الشرقاوى لم يطالب بتوجيه الجبهة ضد "الجماعات الدينية المتطرفة" كما يقول رئيس تحرير الأهالى بل أنه على العكس يقرر فى حواره مع جريدة السياسى ما يلى بالحرف الواحد:
"وخلافى وانتقادى ضد بعض التيارات الدينية المتطرفة لا يلغى اعتقادى بأنها جزء من القوى الوطنية ويجب دعوتها للحوار والانضمام للجبهة".
فمن أين؟ ولماذا؟ اتى رئيس تحرير الأهالى بهذه المقولة التى أقام عليها ركنا مهما من أركان موقفه فى رفض الجبهة التى يدعو اليها الشرقاوى؟..
الصحيح أن الأستاذ الشرقاوى بدأ مقالاته عن الجبهة بحديثه عن "المسيرة الخضراء" وانتقل من ذلك الى التحذير من الانسياق وراء استخدام المشاعر الدينية لخدمة المخططات الشريرة والخفية، ومن نشاط المرتزقة والمأجورين الذين يعترفون من أموال أعداء مصر باسم الدين، وما يشيعونه من أرهاب فكرى وسياسى، مما يمكن أن يؤدى بالبلاد فى النهاية الى مصير كمصير ايران أو لبنان، فهل أخطأ عبد الرحمن الشرقاوى فى تقديره وفى تحذيره من هذه المخاطر؟
من الواضح أن حزب التجمع لا يشارك الاستاذ الشرقاوى فى تقومية لهذا الخطر وهو يرى كما يقول رئيس تحرير جريدته: أن "الجماعات الدينية والتيارات الدينية التى تمارس العنف فى حركتها وتساعد على اذكاء نار الفتنة الطائفية وترفض الحوار ليست هى -رغم الرفض الواضح لمنطقها- ليست هى الخطر الأساسى ولا العدو الرئيسى الذى يهدد الوطن والمواطن فى هذه المرحلة".
ويقول أيضاُ: أن العنف فى مصر مازال أقل بكثير مما تعانيه مجتمعات عديدة، ويضرب على ذلك الأمثال بما يحدث فى المملكة المتحدة والهند واسبانبا والمانيا وايطاليا..
ويبدو لنا أن وراء هذا التقليل من خطر الأرهاب والعنف باسم الدين من جانب حزب التجمع ميلا الى التسامح مع ظاهرة العنف والأرهاب السياسى بصفة عامة وخاصة حين يستخدم هذا العنف ضد الخصوم وهذا موقف لا مبدئى دخيل على اليسار المصرى الذى يرفض العنف والأرهاب الفكرى والسياسى بصفة مبدئية وفى جميع الحالات ولعل ذلك هو السبب فى التعاطف طويل المدى من جانب حزب التجمع، ومن جانب اليسار المغامر بصفة عامة، مع نظام الخمينى فى ايران بزعم أنه نظام ثورى اشتراكى، ولعله أيضا هو السبب فى تعاطف هؤلاء ايضا مع عملية اغتيال السادات فى حادث المنصة، مما يتعارض تماما مع الموقف المبدئى لليسار المصرى.
ومع ذلك كله فان الاستاذ الشرقاوى وان اعتبر قوى الارهاب والعنف باسم الدين خطرا ينبغى على الجبهة مواجهته فهو لم يعتبرها الخطر الاوحد، ولا العدو الرئيسى لقوى الجبهة، والذى يرجع الى أهداف الجبهة كما عرضها الشرقاوى لا يصعب عليه أن يهتدى الى أن الاعداء الرئيسيين لقوى الجبهة هم بذاتهم اعداء تحرر وديمقراطية وتقدم ورخاء هذا الشعب ولن يكونوا أبدا الا الامبريالية والصهيونية وقوى الرجعية والاستغلال الداخلية والخارجية المرتبطة بهما، ولم يكن الاهتداء الى ذلك محتاجا الى أى جهد من جانب حزب التجمع ولكنه كان محتاجا الى شئ من الموضوعية وروح الانصاف.
لا يوافق حزب التجمع على تحديد الاستاذ الشرقاوى لقوى الجبهة وبصفة خاصة فهو لا يوافق على اعتبار النظام القائم حزبا وحكومة ضمن هذه القوى وهذا هو بيت القصيد فى كل موقف التجمع من دعوة الاستاذ الشرقاوى وفى ذلك يقول رئيس تحرير الأهالى:
 "فلا يمكن أن تتسع الجبهة لحزب أو حكومة تدافع عن سياسة التبعية للولايات المتحدة وتتمسك باتفاقيات وكامب ديفيد ومعاهدة الصلح مع العدو الاسرائيلى التى تنتقص من سيادة مصر على سيناء، وتفرض التطبيع مع اسرائيل وتمدها بالبترول".
ويرتبط هذا القول بموقف اساسى للتجمع، هو اعتبار أن أعداء الجبهة، وأعداء مصر هم "هذا التحالف غير المقدس بين الولايات المتحدة الامريكية (العدو الاسرائيلى وحكومة الطفيليين والرأسمالية الكبيرة التابعة" ومن ثم فان هدف الجبهة انما هو "انقاذ مصر من التبعية وفقدان الادارة الوطنية ومن الفساد والطفيلية وحكم الأقلية".
التجمع اذن واليسار المغامر عموما، يعتبران هذا النظام نظاما خائنا وعميلا وحليقا للامبريالية الامريكية وللعدو الاسرائيلى وهذا ينطبق على الحكومة كما ينطبق على حزبها وهما يمثلان الفئات الطفيلية والرأسمالية الكبيرة التابعة للامبريالية ولأسرائيل ومن ثم فلا أمل فى أى تغيير داخل هذه السلطة أو فى توجهاتها مهما كانت ضغوط الواقع أو ضغوط الجماهير، والأمل الوحيد فى تغيير الأوضاع لا يتحقق الا باسقاط هذا النظام.
وبهذا يكون التجمع، واليسار المغامر عموما قد وصلا الى نهاية الشوط فى التطرف واليأس والانعزالية.
ومع أن اليسار الوطنى هو أيضا ضد الامبريالية الامريكية وغيرها وضد العدو الاسرائيلى وضد كامب ديفيد ومعاهدة الصلح مع اسرائيل وضد التبعية وضد الفساد والطفيلية وحكم الاقلية ومع أن له اعتراضاته وتحفظاته على بعض توجهات النظام وسياساته الا أنه يختلف مع حزب التجمع ومع اليسار المغامر عموما فى شأن هذا النظام فاليسار الوطنى يعتبر النظام فى مجموعة ورغم اخطائه نظاما وطنيا ويتفهم الصعوبات والتعقيدات البالغة التى يتحرك فى ظلها هذا النظام.
ولذلك فان اليسار الوطنى يتقبل ويؤيد دعوة الاستاذ عبد الرحمن الشرقاوى للحزب الوطنى الديمقراطى للمشاركة فى الجبهة ويأمل فى أن يكون اشتراك هذا الحزب فيها -اذا حدث- بداية مرحلة جديدة من التعاون الوطنى والوحدة الوطنية، ومن التوجه الجاد الفعال لمواجهة كل مشكلات البلاد، وهو يدرك كما قال الاستاذ عبد الرحمن الشرقاوى "أن الدعوة الى الجبهة لا تنفى وجود الخلاف لهذا الحزب، فلماذا يعجز هذا الحزب، كما يعجز اليسار المغامر عادة، عن الارتفاع الى مستوى المسئولية الوطنية (الموقف الوطنى.
انهم يعجزون عن ذلك لانهم مصابون بالجمود الفكرى، وعدم القدرة على رؤية الواقع رؤية صحيحة وعلى التفاعل معه يعجزون عن ذلك بسبب عزلتهم عن الجماهير وميلهم الى الانفصال عنها والتصرف بمفردهم "بالنيابة عنها".
وهم يعجزون عن ذلك بسبب حبهم للمزايدات الثورية (الظهور دائما بانهم أكثر ثورية من الآخرين).
وأخيراً فهم يعجزون عن ذلك لانهم شديدو الحساسية والتأثير بمواقف وآراء بعض الاطراف الخارجية -فى العالم العربى- التى تراهن على خراب مصر، وانهيار الأوضاع فيها.

7. الجبهة طريق المستقبل

وكما يقول عبد الرحمن الشرقاوى، فإن الذى نعانى منه يبدو ضخما من هموم تجثم على الصدور فمصر تجتاز مرحلة من أصعب المراحل فى تاريخها، وهى مواجهة بالعديد من المشكلات الصعبة المعقدة والمتشابكة على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية (الثقافية.
هناك أولا: القضية الوطنية وهى قضية صعبة ودائمة، هى قضية الحفاظ على استقلالنا الوطنى السياسى والاقتصادى، والثقافى العسكرى، فى مواجهة الضغوط والمؤثرات بالغة الخطر والتأثير.
ووراء القضية الوطنية المصرية، هناك دائما القضية القومية العربية، التى لا تملك مصر أن تتحلل منها أو تغض الطرف عنها.. وهى قضية تحرر الأمة العربية، وتقدمها، ووحدتها.
وفى مركز الدائرة من هذه القضية تكمن مسألة ضرورة مواجهة العدوان الإسرائيلى الصهيونى الامبريالى، وفرض حق تقرير المصير للشعب العربى الفلسطينى، وتحرير كافة الأراضى العربية التى تحلتها استرائيل، على الأقل منذ عام 1967 وما بعدها.
ولا شك أن استعاده مصر لدورها ومكانتها فى انظمة القمة العربية وتحقيق قدر كاف ومتزايد من التضامن العربى، انما يمثل الحلقة الرئيسية فى هذا الاتجاه.
ولا شك ايضا فى أن تطويق، ثم انهاء اتجاه الحل المنفرد الذى يتمثل فى اتفاقية كامب ديفيد انما يعتبر خطوة جديدة فى هذا السبيل، كما أن توفير المعطيات الواقعية لهذه الخطوة -وهو واجب العرب جميعا، انما هو الطريق الحقيقى لتحقيق ذلك.
ان حرية مصر وضمان استقلالها وتأكيد عدم انحيازها وايجابية دورها العربى، ليست ترفا أو مجرد كبرياء وانما هى شروط ضرورية لتحقيق تقدمها، ولتوفير الحلول السليمة لمشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وهناك ثانيا: القضية الديمقراطية قضية استكمال البناء الديمقراطى لمصر، واطلاق الحريات الديمقراطية العامة، وتوفير الضمانات الكاملة لحماية حقوق الإنسان وتوفير الضمانات الكاملة لحمايتها والغاء كافة القوانين والأوضاع المنافية للديمقراطية والمقيدة للحريات.
وهناك ثالثا: القضية الاقتصادية البالغة الصعوبة والتعقيد وهى تقتضى أول ما تقتضى وقف النزيف الخطير الناتج عن سياسة الانفتاح الاستهلاكى، وإيجاد الحلول العاجلة لمأساة الديون الاجنبية وتحقيق التوازن فى الميزان التجارى، وفى ميزان المدفوعات (الموازنة العامة، كما تقتضى سرعة العمل على تحقيق معدلات كافية للنمو الاقتصادى وللنهوض بالصناعة والزراعة، وإعادة تنظيم التجارة الداخلية والخارجية بما يحمى المواطنين من الأستغلال والنشاط الطفيلى، وهى تقتضى سرعة العمل على إزالة الاختناقات الاقتصادية وحل المشاكل العاجلة للجماهير والسير قدما وبصورة فعالة فى طريق رفع مستويات المعيشة للجماهير وخاصة للطبقات) الفئات الكادحه.
وهناك رابعا: القضية الاجتماعية الرئيسية وهى قضية تحقيق العدالة الاجتماعية وتقريب الفوارق بين الطبقات والسير بصورة فعالة فى طريق إقامة مجتمع اشتراكى إنسانى متكافل.
ثم هناك القضايا الاجتماعية الجزئية العديدة والمعقدة مثل ضرورة حل مشكلات المرأة والأسرة والطفولة والشباب والمسنين.
وهناك خامسا: القضية المزمنة الأليمة، وهى قضية الأمية التى يعيش فى اسرها أكثر من 70% من أبناء شعبنا والتى تعتبر وصمة فى جبين مصر مما يقتضى وضع البرامج (المشروعات القومية لحلها فى أقصر وقت مستطاع).
وهناك سادسا: مشكلات التعليم وضرورة النهوض به مما ما يحقق لمصر نظاما فعالا للتعليم الحقيقى المثمر.
وهناك سابعا: المشكلات الصحية وضرورة العمل على الارتفاع بمستوى الخدمات الصحية وضرورة العمل على الارتفاع بمستوى الخدمات الصحية والطبية الى الحد اللائق مع ضمان وصول هذه الخدمات الى كل مواطن اما بالمجان أو بأقل التكاليف.
وهناك ثامنا: مشكلات المرافق، والمياه، والكهرباء، والصرف الصحى، ومشكلات الخدمات، كالمواصلات والإسكان والأسعار وكلها مشكلات صعبة ومزمنة ومعقدة وهى تقتضى جهود الجبابرة لحلها.
وهناك تاسعا: المشكلة الثقافية وضرورة العمل على الارتفاع بمستوى العمل الثقافى فى بلادنا بما يليق بمكانة مصر وبتاريخها وعلى توفير الخدمات الثقافية الكافية واللائقة للجماهير فى الريف والحضر.
وهناك عاشرا: وأخيراً وليس آخرا قضايا البيئة وضرورة حمايتها، ووقاية المواطنين من أخطار التلوث، والقذارة والزحام، والضوضاء.

8- برنامج عام للعمل الوطنى

كانت تلك هى مجرد عناوين فقط للقضايا والمشكلات الأساسية التى يواجهها شعبنا ولو ذهبنا الى التفاصيل لكانت أمامنا المئات من المشكلات والمهام التى تتطلب الحل العاجل.
واذا أردنا حل هذه المشكلات بصورة علمية ومنظمة لكان علينا أن نتوصل الى وضع برنامج عام موحد للعمل الوطنى يكون بمثابة دستور أساسى لهذا العمل فى مختلف المجالات على أن تستند اليه وتسترشد به كل برامجنا التفصيلية وخططنا التنفيذية وأن تتجه لتحقيقه كل تشريعاتنا وتنظيماتنا السياسية والتنفيذية.
ومن الواضح أن مشكلاتنا من الصعوبة والكثافة بحيث لا يمكن حلها الا على المدى الطويل، ومن خلال عملية تخطيط علمى دقيق ومعقد، ولهذا فأنه ينبغى أن يكون البرنامج الوطنى العام صالحا للتطبيق خلال فترة طويلة من الزمن، ونحن نقدر هذه الفترة بعشرين عاما على الأقل وهى الفترة الكافية لحل المشكلات الرئيسية التى نواجهها الآن، ولاحداث تغيير جذرى حاسم فى الواقع السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى لبلادنا بما يحقق نهضة حاسمة فى مختلف نواحى حياتنا، وبما يوفر قاعدة مادية ومعنوية راسخة لتطورها المستقل فى المستقبل.

9- الجبهة الوطنية ضرورة حتمية

هذا البرنامج العام للعمل الوطنى من الذى يستطيع أن يضعه على أحسن وجه ومن الذى يستطيع أن ينهض باعباء تنفيذه ويسهر على استمرارية هذا التنفيذ على مدى الفترة الطويلة التى يقتضيها هذا التنفيذ.
أن أى حكومة أو أى حزب بالغا ما بلغت قدراتها لا يستطيعان وحدهما أم ينهضا بهذه الاعباء.
فمن ناحية التخطيط لاشك أن أفضل الحلول لمشاكلنا هو ما يمكن أن نتوصل اليه معا، وأن نتفق عليه جميعا أو على الأقل هو ما يمكن أن نتفق عليه الاغلبية الساحقة من القوى الوطنية ومن المواطنين ومن أجل ذلك فأن علينا أن نبحث عن الأرضية المشتركة التى يمكن أن نقف عليها معا فى مختلف القضايا.
ومن ناحية التنفيذ، فلا شك أن تضافر كل القوى أو اغلبيتها الساحقة ومن ثم تضافر الأغلبية الساحقة من المواطنين فى تنفيذ أى سياسة أو أى قانون أو أى قرار إنما هو الضمان الأمثل لجدية وكفاية وسلامة هذا التنفيذ، وهو ما يضمن لعملنا الوطنى اقصى قدر ممكن من النجاح.
المشاركة فى التخطيط والتعاون فى التنفيذ وحصول ذلك كله فى ظل الأخاء وروح الوحدة، تلك هى ضمانات النجاح لعملنا الوطنى.
ولا يتسنى تحقيق هذه المشاركة على نحو فعال ومستمر الا من خلال إطار سياسى وتنظيمى واضح ومحدد لهذه المشاركة، وليس من شك فى أن أفضل إطار لذلك إنما هو الجبهة الوطنية المشتركة التى كان للاستاذ الشرقاوى فضل الماطلبة بإقامتها.

10- طبيعة هذه الجبهة

فى رأينا أن العامل الأساسى فى تحديد طبيعة أى جبهة انما هو برنامجها والمهام المنوطة بها ذلك أن هذا البرنامج وتلك المهام بدورهما سوف يحددان القوى التى تقف مع هذه الجبهة، والقوى التى ستقف ضدها.
والمهام المطروحة على الجبهة التى يقترحها الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى والتى يؤيدها اليسار الوطنى هى مهام وطنية وديمقراطية وتقدمية وكل من يقبل برنامج هذه الجبهة، ويقبل الانضمام اليها انما يقبل بالضرورة أن يقف فى صف القوى الوطنية الديمقراطية التقديمة وسوف يصدر المستقبل حكمه على كل القوى والعناصر التى انضمت الى الجبهة، من منها سوف يستمر فى العمل باخلاص تحت لواء الجبهة ومن أجل تحقيق برنامجها، ومن الذى سوف ينكص على اعقابه أو يسقط من الصف اثناء المسيرة الطويلة.
ونقول هنا كما قال عبد الرحمن الشرقاوى شرحا لطبيعة الجبهة وطبيعة العمل الجبهوى من أن الدعوة الى الجبهة والأنضمام اليها وحتى العمل داخلها لا ينفى وجود الخلافات كل ما فى الأمر أن اطراف هذه الجبهة يلتزمون معا بما هو متفق عليه، كما يلتزمون بمعالجة الخلافات التى تنشأ بينهم من خلال الحوار والوسائل الديمقراطية وبروح الرغبة المشتركة فى الوصول الى حل مشترك.

11- اللجنة التحضرية للجبهة

واليسار الوطنى يؤيد ما اقترحه الأستاذ الشرقاوى من تشكيل لجنة تحضيرية من ممثلى القوى والأحزاب التى تقبل الانضمام الى هذه الجبهة، ومن بعض الشخصيات الوطنية المستقلة ذات الوزن والفاعلية والمقدرة على العمل الجبهوى ولتبدأ هذه اللجنة عملها فى وضع مشروع للبرنامج الأساسى للجبهة وفى وضع مشروع آخر لاستكمال البناء التنظيمى لها، على أن يكون هذان المشروعان بعد ذلك موضوعا لحوار واسع يسبق الاقرار النهائى لهما، والتشكيل الكامل لبناء الجبهة.
* * *
وليكن اقتراح عبد الرحمن الشرقاوى باقامة الجبهة الوطنية والجهد المخلص والصادق الذى قدمه فى هذا الصدد بداية حقيقية لميلاد جبهة وطنية مصرية شامخة وليكن قيام هذه الجبهة بداية مرحلة مشرقة فى تاريخ العمل الوطنى من أجل مصر.

الرسالة الثانيــة

نص حوار مع الأستاذ محمود توفيق عن البطل يوسف صديق ودوره فى قيام ثورة يوليو 1952، ثم فى الدعوة إلى إقامة الجبهة الوطنية الديموقراطية.

حوار مع الأستاذ محمود توفيق

*س: ما هو دور يوسف صديق فى تكوين الجبهة الوطنية؟ ولماذا فشلت؟

ج: يوسف صديق كان دائما قريبا من فكرة الجبهة الوطنية الديمقراطية، وكان يرى أن أغلب القوى السياسية الموجودة فى الساحة هى قوى وطنية، وانه يمكن التقريب بين هذه القوى، وربطها ببرنامج وطنى ديمقراطى لملىء الفراغ الناشئ عن انهيار النظام الملكى القديم، وكأساس لقيام سلطة وطنية تتولى تسير أمور البلاد لصالح الشعب كله، وعلى هذا الاساس كان يدافع عن الحل الديمقراطى لقضية السلطة بعد قيام الثورة، ولذلك طالب بعودة البرلمان المنحل فى عهد فاروق، وممارسة دورة كممثل ديمقراطى للشعب، وكان ذلك فى مواجهة الاتجاه الأخر فى مجلس قيادة الثورة، وهو استيلاء الضباط الأحرار على السلطة ممثلين فى مجلس قيادة الثورة، وعندما رفض أغلبية أعضاء المجلس هذا الحل وساندهم فى ذلك مجلس الدولة تحت تأثير الدكتور السنهورى وسليمان حافظ، عاد يوسف فطالب بتشكيل جمعية تأسيسية بالانتخاب الحر المباشر تتولى وضع دستور جديد للبلاد، كما تقوم بمهمة البرلمان، وأيضا قوبل هذا الاقتراح بالرفض.
وبعد أن تم الافتراق بين يوسف وبين المجلس وتقدم باستقالته، بدأ يعمل فى اتجاه تشكيل هذه الجبهة بعيدا عن مجلس قيادة الثورة أى من موقع المعارضه للاتجاه الدكتاتورى العسكرى الذى انساق اليه أغلب أعضاء مجلس قيادة الثورة، خاصة بعد أن أعلن يوسف استقالته من مجلس قيادة الثورة ومن الجيش.
كانت نقطة البدأ التنظيمى لعمل يوسف فى هذا الاتجاه هو تشكيل ما سمى باللجنة التحضيرية للجبهة الوطنية للكفاح المسلح، وكانت هذه اللجنة تضم عداا من انصار يوسف من الضباط وبعض المدنين، وكانت تعمل على تشكيل الجبهة الوطنية من خلال الاتصالات التى تقوم بأجرائها مع القوى السياسية المختلفة التى ترشحها مواقفها ومبادئها لكى تكون جزءا من هذه الجبهة.
وفى هذا الصدد كانت هناك اتصالات منظمة مع الوفد المصرى، والاخوان المسلمين، والاشتراكين، والشيوعين -حدتو-، وكان محور هذه الاتصالات هى مجموعة اللجنة التحضيرية التى كانت تتحرك حول يوسف صديق، واستمر هذا النشاط حتى قيام هبه مارس 1954 من أواخر 1953 حتى مارس 1954، وكان لهذا النشاط دور مهم فى التحضير لهذه الهبه وفى توحيد جماهير كثيرة خاصة من الطلبة فى اتجاه إيجاد البديل الديمقراطى للحكم العسكرى الذى كان قد بدأ يفرض نفسه، وظهر ذلك فى يناير 54 فى المظاهرات التى حدثت فى جامعة القاهرة والتى وقع فيها صدام بين الطلبة وبين قطاعات من تنظيمات هيئة التحرير التابعة للسلطة، حيث قام الطلاب بأحراق عدد من السيارات العسكرية التى كان يستقلها بعض اعوان هذه الهيئة، وظهر التناقض فى الموقف بين جماهير الطلبة وبين السلطة العسكرية وكانت هذه مقدمة هامة لاحداث مارس 54 ومبشر بهبه مارس كلها.
ومما يذكر أن هذه الاتصالات الجبهوية قد شملت الاتصال بمحمد نجيب نفسه عن طريق محمد رياض الذى كان سكرتيرا له وكان يحضر بعض الاجتماعات الجبهوية نائبا عن محمد نجيب، ويمثل صله وصل بين هذا التجمع الجبهوى، وكان نجيب يبدى موافقته على فكره الجبهة ومبادئها ونشاطها، واستمر هذا الوضع الى أن قامت هبه مارس وظهر الاتجاه الشعبى الاجماعى على ضرورة عوده الجيش الى ثكناته، والغاء الحكم العسكرى وتشكيل حكومة ائتلافية جبهوية تقوم على برنامج الجبهة الوطنية الديمقراطية باتجاهاته التاريخية المعروفة، وهذا ما عبر عنه يوسف فى رسالته الى محمد نجيب التى نشرت فى جريدة المصرى والتى دعى فيها تشكيل حكومة ائتلافية .
وكان تحقيق هذا المطلب قاب قوسين أو أدنى لولا أن حدث تراجع من بعض اطراف هذه الجبهة عندما أعلن مجلس قيادة الثورة انتهاء مهمته وعودة الجيش الى ثكناته فى 25 مارس 54 اذ بدأت هذه الاطراف تتراجع عن التزامها بفكرة الجبهة، وتبحث عن مكاسب ذاتيه معتقده ان النظام العسكرى سوف يرحل لامحاله.
وكان أول المتراجعين هم محمد نجيب والاخوان المسلمين أذ بدأ محمد نجيب يعلن عن ضرورة اعطائه فترة انتقالية يحكم فيها منفردا على رغم أن ذلك ضرورى لتهيئة البلاد للحكم النيابى والدستورى، واتضح أن هذا الموقف كان متفقا عليه بينه وبين الاخوان المسلمين وهو موقف شبيه بالتحالف الخفى الذى حدث فى اول الثورة بين الاخوان وبين جمال عبد الناصر وكان الهدف من ذلك التحلل من أى ارتباط مع الوفد ومع الشيوعين، وكذلك لوحظ أن حزب الوفد بدأ يتراجع هو الاخر عن هذا الارتباط أذ رفضت قيادة الوفد فى ذلك الوقت التوقيع على بيان مشترك للجبهة كان معدا لاصداره حسما للامور فى ذروه احداث مارس، ذا كان هذا البيان اعلان الجبهة ومبادئها واعلان التمسك ببرنامجها، بما فيه الحكومة الائتلافية، فقد احجم الوفد هو ايضاً عن التوقيع على هذا البيان، وكان قد اتفق مع كل هذه الجهات على اصدار هذا البيان، الوفد لم يشأ أن يقيد نفسه باى التزام مع الشيوعين أو الأخوان أو غيرهم.
وهكذا انهارت عملية الجبهة مما اتاح الفرصه للنظام أن ينسف الموقف عن طريق اضراب عمال النقل المشترك والغاء قرارات 25 مارس.
وقد يتساءل البعض هل انهيار الجبهة على هذا النحو دليل على خطأ الفكره الجبهوية فى حد ذاتها؟ واجيب على هذا السؤال بالنفى ذلك ان فكرة الجبهة الوطنية كانت وما زالت هى مفتاح الحل للازمة المصرية حتى اليوم، اذ ان مشاكل البلاد كانت ومازلالت مشاكل كبيرة جدا ومعقدة جدا ولا يمكن لاى حزب أو طرف من الاطراف ان يتولى حلها منفردا، لان مثل هذا الحل لا يكون الا بتظافر الشعب كله وهو ما لا يتوافر الا بقيام جبهة وطنية تجمع طلائع هذا الشعب على اختلاف مواقعها.
وفى هذه الحالة لابد أن يكون الاساس الديمقراطى هو القاعدة التى تقوم عليها هذه الجبهة وهذا ما اثبته التاريخ والتجربة فى كثير من البلاد التى تواجه مشكلات وطنية وديمقراطية فى مثل حجم وتشابك وتعقد المشاكل المصرية.
* * *

*س: هل كان يوسف صديق شيوعيا؟

ج: يوسف صديق كان شيوعيا، وفى نفس الوقت لم يكن شيوعيا، بمعنى أنه كان متعاطفا مع الفكر والأتجاه بصفة عامة من حيث انهما يعبران عن الرغبة فى تحقيق العدالة الأجتماعية، وأنصاف الفقراء، والمظلومين، والكادحين، وأيضا فى تحرير الشعوب المستعبدة بواسطة الأستعمار، وكان يرى أن كل ذلك يتفق من ناحية الفلسفة المادية التى تعتبر ركنا من أركان الماركسية والتى تتعارض مع الأيمان الدينى، كذلك فهو لم يكن مقتنعا بفكرة دكتاتورية البروليتاريا كأسلوب للحكم عن نجاح الثورة الأشتراكية، فهو كان من حيث المبدأ ضد أى دكتاتورية، وكانت قناعته بالحرية والديمقراطية تحول بينه وبين تقبل فكرة دكتاتورية البروليتاريا، هذه بصفة عامة عن الشيوعين، أما بالنسبة للحركة الشيوعية فى مصر فكان معجبا بإخلاص الشيوعين المصرين لمبادئهم وما يتحلون به من روح نضالية، ومن استعداد للتضحية فى سبيل المبدأ وفى سبيل مصلحة شعبنا ووطننا، ولكنه من ناحية أخرى لم يكن يقبل ظاهرة الأنقسامية، فهى تنفره من التنظيمات الشيوعية بصفة عامة، غير أنه كان يتعاطف بشكل خاص مع الحركة الديمقراطية (حدتو)، فقد كان على اتصال وثيق ببعض أعضائها ومن خلالهم كان يعرف اتجاهاتها ويقرأ الكثير من مطبوعاتها ومن هؤلاء (أنا) بطبيعة الحال بحكم صلتى العائلية والشخصية واقامتى معه فترات طويلة وما كان بيننا من صداقة رغم اختلاف السن، كذلك كانت له صله من خلالى بالشاعر (كمال عبد الحليم) كانت له صله بالكاتب (ابراهيم عبد الحليم) شقيق كمال والذى كان يعمل معه موظفا اداريا بالسجلات العسكرية التى كان يوسف مسئولا عنها من الناحية العسكرية، واتاح له ذلك فرص عديدة للقاء يوسف والحديث معه وكان ابراهيم فى هذه الأثناء عضوا بالحركة الديمقراطية وله دور مهم من النواحى التثقيفية للحركة، وكان يعرفنى ويعرف صلتى بيوسف من خلال أخيه كمال، لذلك كانت صلته بيوسف صله معرفة وصداقة وثيقة، وبدأ يوسف يتعاطف مع الحركة، حتى أنه كان لا يتردد فى تقديم العون اليها بأى صوره تطلب منه، من ذلك المعونات المالية، وكذلك المساعدات العملية فقد حدث أن أوى كمال عبد الحليم فى بيته بثكنات العباسية لفترة من الزمن كان فيها كمال مطلوبا القبض عليه وهاربا من البوليس، كما حدث انه اخفى فى بيته جهاز طباعة بالرونيو، ومرة أخرى جهاز طباعة بالبالوطة، بل شارك ذات مرة فى العمل على جهاز البالوظة هذا وطباعة احد البيانات التى اصدرتها الحركة الديمقراطية 1948 وكان قد نسخ هذا البيان بخط يده بالحبر الزفر ثم قام بطبعة على البالوظة بعد ذلك، نظرا لوضوح وجمال خطة، وكل هذه الخدمات التى كان يؤديها للحركة الوطنية كانت تعبيرا عن تعاطفه مع هذه الحركة وما تقوم به من اعمال نضالية، كما انه كان تعبير عن رغبته فى المشاركة باى جهد فى النضال ضد الاستعمار البريطانى ونظام الحكم الملكى القائم فى ذلك الوقت، واعتقد أن هناك سببا أخر لا يقل اهمية عن كل ذلك وهو طبيعة  يوسف صديق وما جبل عليه من اخلاق الفرسان وشهامتهم أو ما يسمى باللغة الدارجه المصرية (الجدعنه) والتى تجعله دائما سباقا ومبادرا ومتطوعا لأعمال الفروسية والشهامة، وهذه المسألة هى التى لعبت الدور الرئيسى وربما الأوحد فى مشاركة يوسف فى حركة الضباط الأحرار، وفى ليلة 23 يوليو وهى التى تفسر طريقه تصرفه فى تلك الليلة، ولكن يوسف كان دائما يعبر الى جانب تعاطفه مع نضال الشيوعين المصرين والحركة الديمقراطية عن انتقاداته للشيوعين سواء من الناحية الفكرية، وموقفهم من الدين، أو عن انخراطهم فى الأنقسامية، أو عن اعتمادهم فى النضال على المنشورات والاجتماعات فقط، وكان يعتبر هذه الأساليب غير منتجه، وأن الأمر يتطلب استخدام وسائل اكثر فعالية من الناحية العملية، وهذا بالتحديد هو الذى جعله ينضم الى حركة الضباط الأحرار دون تردد عندما عرض عليه ذلك على أمل أن يجد فى هذه الحركة الاتجاه الى تحقيق الأهداف بوسائل اكثر ايجابية واكثر عملية بحكم الطبيعة العسكرية للضباط، من هذا العرض استطيع أن أقول أن التشخيص الصحيح لموقف يوسف هو: أنه كان متعاطفا مع الحركة الديمقراطية بدرجة كبيرة لكنه فى نفس الوقت كان متعاطفا أيضا مع كل الاتجاهات والتنظيمات، والأحزاب الوطنية، والمعارضه للأستعمار والنظام القائم، وهذا الأتجاه ظل معه حتى النهاية، وهذا يفسر الكثير من مواقفه قبل الثورة أو بعدها، فقد كان يشعر بالأرتباط والأنتماء الى الحركة الوطنية المصرية، بكل فصائلها، وهو ما عبر عنه أزمه مارس 54 بكل وضوح، وكان يعيب عل سلطة يوليو أنها تورطت فى الخصومة مع كل التيارات الوطنية الأخرى ولم يكن ذلك فى صالح الثورة أو الوطن، ويمكننى أن أقول أن كل هذه العلاقات مع الحركة الشيوعية لم تصل الى درجة الأنتماء التنظيمى بشروطه المعروفه سواء مع الحركة الديمقراطية أو مع غيرها، فشروط الأنتماء التنظيمى هى القبول بالفكر والبرنامج واللائحه، والأنتظام فى احدى الوحدات التنظيمية ولم تكن هذه الشروط تنطبق على يوسف صديق من ناحية، بحكم طبيعته وافكاره، ومن ناحية أخرى، بحكم اعتبارات الأمن التى كانت تحول بين ادخال الضباط فى صلب البناء التنظيمى السرى للحركة، لكن الحركة الديمقراطية حلت هذه المشكلة عن طريق أنشاء خاص لضباط الجيش تابع لها، يتكون كله من الضباط، وحلقه الصلة بينه وبين التنظيم، هى أحد هؤلاء الضباط وهو: أحمد حمروش، ويشرف عليه من الناحية السياسية أحد الكوادر السياسية البارزين وهو القاضى (أحمد فؤاد)، وفيما عدا ذلك لم يكن هناك أى أندماج، بين هذا التنظيم، وبين التنظيم الأم للحركة، وعضويه يوسف أو غيره من الضباط فى هذا التنظيم التابع لم يكن معناها أنه عضو فى الحركة الديمقراطية (حدتو).
* * *

*س: لماذا أيدت (حدتو) الأنقلاب العسكرى؟ وهل يمكن أن يقوم الجيش بثورة بدل الشعب؟

ج: أيدت (حدتو) حركة 23 يوليو لعدة أسباب: أنها كانت على صلة وثيقة بحركة الضباط الأحرار، من خلال أعضاء تنظيم الجيش التابع لها والذين كانوا فى نفس الوقت أعضاء فى تنظيم الضباط الأحرار، فكانت مشاركة فى هذا التنظيم بهذه الطريقة، وكانت على صله ببعض قيادات الضباط الأحرار وبالأخص (جمال عبد الناصر) الذين كانوا على أتصال بأحمد حمروش، والقاضى أحمد فؤاد، ويوسف صديق، وخالد محى الدين، وكان هناك أعضاء اخرين بتنظيم الجيش التابع لحدتو، لهم دور فى حركة الضباط، ومن خلال هذه الأتصالات كانت حدتو تعلم أن هذه الحركة لها توجهات وطنية، وثوريه معاديه للأستعمار، وللنظام كما وان افكار حدتو كانت تتسع لتقدير الأتجاهات الوطنية التقليدية فى الجيش المصرى منذ أيام عرابى، أذ كانت ترى أن لهذا الجيش طبيعة وطنية مميزه نتيجة لظروفه التاريخية، وأنه ليس كباقى الجيوش فى بعض بلاد العالم الثالث، أو أمريكا اللاتينية، وهى جيوش من المحترفين والمرتزقه، هذا بالإضافه الى أن برنامج الضباط الأحرار الذى تضمنته النقاط السته المعروفه، كان برنامجا وطنيا تقدميا ولم يكن من الممكن لأحد أن يتجاهل هذه الطبيعة فى برنامج الحركة، باعتبارها وثيقه أو عهد بين الحركة وبين سائر الضباط والقوى الوطنية، وهذه أهمية البرامج فى الأحزاب وفى الهيئات فهى ميثاق أو معاهده، وهذا لا يمنع انه يحدث كثيرا أن تخرج بعض الأطراف، على هذه البرامج والمواثيق، ولكنها فى هذه الحالة هى التى تتحمل مسئولية هذا الخروج، وهناك دائما هذا الخطر فى العمل السياسى، ان يخرج حزب او تنظيم او هيئة على البرامج أو المبادئ التى تعهد بها أمام الجماهير، ولكن هذا لا يمنع من تأيد الآخرين له على أساس هذا البرنامج، فاذا التزم به كان ذلك كسبا كبيرا للوطن والشعب، واذا خرج كان هناك اساس لمحاسبته على هذا الخروج وتحميله المسئولية عنه، وفى المقابل لا يمكن لمن يعمل فى الحقل السياسى ان يتجاهل مثل هذه البرامج بحجه ان اصحابها قد ينحرفون عليها، فدائما هناك مخاطر فى العمل السياسى، ولكنها لا تبرر سلبية الناس بالنسبة لمثل هذه الحركات.
يوسف صديق وغيره من الضباط المشاركين فى الحركة، فقد كانت هناك ثقه كبيرة فى وطنيتهم، وفى ثوريتهم، ومن خلالهم كانت هناك درجة من الثقة فى وطنيه الآخرين، وأذكر أننى سألت يوسف قبل الحركة بأيام وكان قد صارحنى بانها على وشك ان تقوم بانقلابها فسالته هل انت على ثقه من وطنية واخلاص المتزعمين لهذه الحركة؟ فاجابنى بانه يعتبر نفسه أقلهم وطنية واخلاصا!! وعلمت فيما بعد أنه كان يقصد جمال وعبد الحكيم ومحمد نجيب، فاذا اضفت الى هذا احمد حمروش واحمد فؤاد وخالد وغيرهم من الضباط فى الحركة، لكان من غير المتصور أن تتخذ الحركة الديمقراطية موقفا اخر، خلاف تايد حركة الجيش، ودعوة الجماهير الى الألتفاف حولها رغم أى تحفظ على الطابع العسكرى تحكمها قواعد محدده أو يحكمها حكم يمسك صفاره ليحدد الصواب والخطأ والثورة عمليه معقدة جدا، تحدث فيها تفاعلات كثيرة جدا، هى التى تحدد مسارها ونتائجها!! وقد كانت الحركة الديمقراطية تفهم الوضع على هذا النحو، وانه يكفى فى البداية هذه الدرجة من الثقة فى وطنية واخلاص القائمين بالحركة ونترك الباقى لدور الجماهير، والحركة الشعبية، والتفاعلات الطبيعية التى سوف تحدث، وهذا هو منطق الثورة، وجميع الثورات تحكمها هذه النظرية.
* * *

*س: هل تعتقد انه كان لامريكا دور مباشر فى اقصاء يوسف صديق؟

ج: نعم اعتقد ان لامريكا دور فى اقصاء يوسف صديق بسبب ما كان يعرف عنه من ميول شيوعيه وتمثل ذلك فى امرين:
الأول: غير مباشر، وهو تركيز امريكا فى علاقتها بنظام ثورة يوليو على التخويف من الشيوعين والنفوذ الشيوعى، وتغذية حساسية الضباط من هذا النفوذ أذ رغم ان قيادة الضباط الأحرار ممثله فى جمال عبد الناصر كانوا يتعاونون مع الضباط الشيوعين قبل الثورة، ولكن هذا لا يمنع انه كانت لديهم حساسية ضد الشيوعين وكان تعاونهم مرحليا تكتيكيا كما اتضح فيما بعد، كما وان امريكا كما هو معروف عنها كانت تتخذ من سياسة التخويف من الشيوعين مدخلا لها للتدخل فى شئون البلدان النامية، ومن ثم احتواء النظم الثورية التى تقوم فيها واظهار ان هناك صله مشتركة بين امريكا والنظم فى الكفاح ضد الشيوعية، وهذا المنطق جربته امريكا فى مصر وكانت له نتائج ملموسه، بل ان بعض النظم الثورية ومنها نظام يوليو كان يتعامل مع امريكا على هذا الاساس، ويحاول الحصول على بعض المكاسب او المواقف من امريكا عن طريق اظهار عدائه للشيوعين، وكان ذلك ملموسا فى بداية ثورة يوليو، كما تمثل فى اعدام -خميس والبقرى- على اساس انهم شيوعين رغم انه كان معروفا انهم لم يفعلوا شيئا يستحق الاعدام، كذلك حرص النظام على ابقاء عدد من المعتقلين الشيوعين فى السجون رغم الافراج عن سائر المعتقلين الاخرين لتأكيد موقف النظام من الشيوعيه والشيوعين، والهدف كان التأثير على الموقف الامريكى خاصة بالنسبة لمساعى النظام لإجلاء القوات البريطانية عن مصر ولضمان تأيد امريكا لهذه المساعى.
ثانيا: كانت هناك مواقف مباشرة وتدخلات من السلطات الامريكية للتحذير واثاره الشكوك حول يوسف صديق باعتباره ممثلا لوجود نفوذ شيوعى فى الثورة والتحريض على التخلص منه، واذكر انه فى بداية الثورة نشرت مجلة تايم الامريكية موضوعا عن الثورة تكلمت فيه عن يوسف صديق باعتباره ضابطا احمرا، وهذه المجلة معروفة بعلاقتها الوثيقة بالمخابرات الامريكية، وكان لهذا المقال تأثير واضح على علاقة يوسف بمجلس الثورة.
* * *

*س: كنت مع يوسف ليلة قيام الثورة فما هى ذكرياتك عنه فى تلك الليلة؟

ج: كنت اعلم أن يوسف صديق قد انضم الى تنظيم الضباط الاحرار، وان هذا التنظيم يحضر لعمل ثورى، وفى يوم 22 يوليو 52 كنت ازوره بمنزله بحى شبرا، بجوار شارع خلوصى فأخبرنى بان الضباط قرروا القيام بحركتهم الليلة، وانه سيشترك فى هذه الحركة، ثم جلست أناقشه محاولا التأكد والاطمئنان الى صواب هذا العمل، ومدى الثقة التى يوليها للمشاركين فيها من ناحية توجههم الوطنى، ومدى صدق وطنيتهم ثم مدى امكانية الثقة الشخصية فيهم وأدركت من ردوده أن ثقته بمن يعرفهم من أعضاء هذا التنظيم لا تتزعزع، كما أدركت أنه لا يوجد شئ يمكن أن يوقف اندفاعه فى المساهمة فى هذه الحركة، فتمنيت له التوفيق وأنا أضع يدى على قلبى، ثم طلب منى ان أرافقه فى رحلته الى حيث يبدأ عمله فى هذا الشأن، فخرجت معه من بيته وكان ذلك فى بداية المساء حوالى الساعة السابعة مساء تقريبا، ومشينا فى شارع خلوصى الى دوران شبرا، وهناك طلب منى الانتظار للدخول الى عيادة الدكتور -عبد العزيز الشال- الذى كان يعالجه من نزيف الرئه، لاخذ حقنه توقف النزيف وانتظرت الى أن دخل واخذ الحقنه كما اخبرنى، ثم خرج وتوجهنا الى محطة الاتوبيس وركبنا اتوبيس رقم 8 الذى سار بنا من شبرا الى ميدان العتبه، وفى العتبة نزلنا وركبنا اتوبيس 10 المتجه الى مصر الجديدة، وهناك نزلنا فى محطة روكسى فى أول مصر الجديدة وانتظرنا على المحطة بعض الوقت حتى حضرت سيراة جيش من نوع بيك أب فتوقفت واستقلها يوسف، مع من كان بها اذكر انه كان بها احد الضباط والسائق، ومضت السيارة فى طريقها الى معسكر هاكستب، وعدت ادراجى وظللت لا اعرف شيئا عما يحدث الا فى صباح 23 حيث كنت انتظر سماع الاخبار فى الراديو، فسمعت البيان الصادر من قيادة الجيش باسم اللواء محمد نجيب، والذى اعلن قيام حركة الجيش، وعلمت ان الحركة قد نجحت فى الامساك بزمام السلطة فى الجيش، ومن ثم انفتح امامها الطريق الى السلطة.

الرسالة الثالثـــة

نص الرسالة التى وجهها الأستاذ محمود توفيق إلى الدكتور رفعت السعيد رئيس حزب التجمع فى بداية إقامة الحزب، عن ظروف إقامته، ودور الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى، ومجموعته، فى تلك الظروف

رسالة الى الدكتور رفعت السعيد

الأخ العزيز الدكتور/ رفعت السعيد,
 أبعث اليك بخالص التحية وجزيل الشكر على تفضلك باهدائى كتابك الجديد القيم: مجرد ذكريات -الجزء الثالث، ووآراء مشابهة فى الجزء الثانى من :مجرد ذكريات، معه روايتك: الرمال، التى لم أقرأها بعد، وان كنت قد استمتعت بقراءة الكتاب وفرغت منه توا.
 وفى كلمة الاهداء الرقيقة التى تفضلت بكتابتها لى فى صفحة الكتاب الأولى قلت: ولعلى كنت صائبا فيما قلت، وقد فهمت منها، ولعلى أكون أنا الأخر صائبا فيما فهمت، انك تعنى بذلك ما جاء بالكتاب خاصا بى وببعض الاصدقاء والزملاء الذين اتفقت مواقفهم مع موقفى فى ذلك العهد البعيد الذى بدأت فيه قصة التجمع، منبرا ثم حزبا، واذكر انك ذكرت معلومات وآراء مشابهة فى الجزء الثانى من: مجرد ذكريات، واذا كنت لم أنشط الى التعليق عليها فى حينها، فإنى رأيت ضرورة هذا التعليق هذه المرة، حتى لا يعتبر الامتناع عنه تسليما بتلك المعلومات والآراء، بشأنى وبشأنهم.
ان كتابك القيم يمكن اعتباره، كما قلت أنت وكررت، رسالة فى "العشق التجمعى" وهو عشق أهنئك عليه ولا أعذلك فيه، اذ أن أمرى فيه ليس كأمر ذلك الشاعر الذى قال:
وعذلت أهل العشق حتى ذقته
فعجبت كيف يموت من لا يعشقُ

وبالمناسبة، فبيت الشعر الذى أوردته فى مستهل الكتاب ليكون شعارا لما جاء به وأوردته على النحو التالى:
كم ذا بكابد عاشق ويعانى
فى حب مصر كثيرة العشاقِ

هو للشاعر حافظ ابراهيم، وصحته كالآتى:
ك ذا بكابد عاشق ويلاقى
فى حب مصر كثيرة العشاقِ

واذا كان المعنى فى الحالتين واحدا أو يكاد، الا أن الروى هو الحالة الثانية أكثر صحة واستقامة، فضلا عن أن هذا هو الاصل "التاريخى" لبيت حافظ ابراهيم.
وأول ما يعن لى تعقيبا على ما ورد بشأنى فى كتابك، هو ازجاء الشكر اليك على الصورة البهية التى صورتنى بها فى مستهل روايتك للاحداث التى صاحبت نشأة التجمع، فى لقائنا الذى وصفته فى ذلك الصباح الينا يرى المعطر بشذى الياسمين وهى صورة لها أهميتها، لا لجمالها الفنى فحسب، بل لدلالتها فى بيان طبيعة العلاقة التى كانت تجمع بينى وبينك فى ذلك الوقت، وهو ما يرد على بعض ما جاء بكتابك عنى فى ذلك، مما سوف أعود اليه فى حينه.
ان كل المشاهد والوقائع التى حفل بها كتابك بعد هذه المقدمة، تخلو أو تكاد مما يحفزنى الى تلعقيب عليها، فتلك أمور لم أشارك فيها كما لم يشارك فيها أحد من أصدقائى الذين ذكرت أسمائهم، ممن كانوا يتفقون معى فى الموقف أو الرأى بشأن كيفية بناء حزب لليسار فى ذلك الوقت، غير أن هناك أمرين جاء ذكرهما فى كتابك الأخير وفى الجزء الثانى من ذكرياتك عنى وعن هؤلاء الاصدقاء، أراهما بعيدين كل البعد عن الصحة وعن الانصاف، وأرانى مضطرا الى تناولهما بالتعقيب والتصحيح، انصافا للحقيقة التاريخية وحتى لا يعتبر السكوت بشأنهما تسليما بصحة روايتك لهما أو تصورك عنهما، كما سبق لى القول.
الأمر الأول: هو ما ذكرته فى صفحة 26 ، 27 من كتابك، عما أصاب عبد الرحمن الشرقاوى ومن أحاطوا به ممن أسموا أنفسهم مجموعة روز اليوسف (أحمد حمروش، حسن فؤاد، صلاح حافظ، ومن تواجد معهم خارج اطار روز اليوسف مثل محمود توفيق وسعد كامل وآخرين) من الغيظ عندما استقبل السادات خالد محيى الدين وليس عبد الرحمن الشرقاوى، طالبا منه تأسيس منبر اليسار، وبذلك تلاشت ترتيبات مسبقة للشرقاوى ومن أحاطوا به وفيما يبدو أنهم كانوا قد استعدوا قبل غيرهم، ثم ولسبب لا يعرفه الا السادات، انقلبت الخطة، وانتقل الاختيار من الشرقاوى الى محيى الدين، وبدأت عملية تأسيس منبر اليسار، وبدأت معها معركة من جانب هذه المجموعة...
وأفرغت هذه المجموعة غيظها (وكانت محقه فى هذا الغيظ) الذى أتى -وبالدهشة- ضدنا وليس ضد السادات.
تلك هى المقولة الأولى، أو الخطأ الأول، الذى وقعت فيه فى تصورك لهذا الامر، وفى روايتك للاحداث التى كانت جارية وقتها، وواضح أن هذا الخطأ، يرجع فيما يرجع اليه، الى قيامه على الظن والتخمين، دون سند من الواقع أو الحقيقة، ولا أدل على ذلك من قولك:
- وفيما يبدو انهم كانوا قد استعدوا قبل غيرهم، ولم يرد فى روايتك أى بيان لمظاهر هذا الاستعداد، ولست أدرى هل يحق للمؤرخين، وأنت مؤرخ، ان يقيموا احكامهم على: فيما يبدو، وأمثالها، أم أنه عليهم أن يلتزموا جانب الدقة والحذر فلا قيمون حكما الا على أساس من القطع واليقين، لا على الظن والتخمين، شأنهم فى ذلك شأن القضاء.
- ثم ما هو دليلك أصلا، على أن السادات حين استقبل الشرقاوى وكاشفه باتجاهه الى اقامة تعددية، بما فى ذلك السماح باقامة حزب لليسار، قد اتفق معه أو حتى عرض عليه، أن يكون هو رئيسا لذلك الحزب، أو على أن الشرقاوى قد طلب من السادات ذلك؟ طبعا لا دليل على الاطلاق، وانت نفسك لم تذكر فى روايتك عما قلته أنا لك عن هذه المقابلة اننى ذكرت لك شيئا من ذلك، اذن فالمسألة هنا أيضا، مسألة ظن وتخمين، وليس لها سند يعتد به.
وقد يكون للبعض مبرر فى أن يتصوروا أن الشرقاوى كان يرغب أصلا فى أن يكون رئيسا لحزب اليسار، ومثل هؤلاء قد يكون عذرهم أنهم لا يعرفون الشرقاوى معرفة حقيقية، أما الذين كانوا يعرفونه حقا -وأنا واحد منهم- فنعلم عنه علم اليقين أنه لم يكن يفكر فى ذلك، أو يقبل به لو عرض عليه فهو كان واضحا وقاطعا فى التقيد بدوره كأديب وفى أن عطاءه الوطنى والفكرى -والسياسى- هو من خلال دوره الادبى وحده كما يعرفون عنه نفوره من التقيد بأى قيد تنظيمى أو ادارى أو تنفيذى، مما تحتمه رئاسة حزب أو حتى تولى أى منصب قيادى فيه.
وقد يقول قائل: ولماذا اذن يفاتح السادات الشرقاوى فى اعتزامه اقامة تعددية حزبية والسماح بأقامة حزب لليسار؟ ولا أظن أن هذا الأمر عصى على الفهم، فالشرقاوى كان -على الصعيد الفكرى والسياسى، لا التنظيمى- من أبرز وجوه اليسار المصرى خاصة فى تلك السنوات التى كان يرأس فيها روز اليوسف، والتى تحولت بوجوده ومن معه الى منبر فكرى وسياسى لهذا اليسار، ومن الطبيعى -والعلاقة بينة وبين السادات كان يسودها الكثير من الود الشخصى، ان يحدثه فى هذا الأمر قبل غيره، بل ربما وان يعرف رأية فيه، دون أن يعنى ذلك أن يختاره لرئاسة مثل هذا الحزب، أو يرشحه لذلك، اذن فتصورك أنت أو سواك، أن الشرقاوى ومن حوله كانوا يتطلعون الى رئاسته لحزب اليسار، وغيظهم حين اسندت هذه الرئاسة الى خالد محيى الدين هو تصور خاطئ قائم على حساسيات لا أساس لها، بل يمكن أن يكون وليدا لعمليات دس ووقيعة من جانب بعض الاشخاص أو الجهات أو الدوائر التى يهمها بث الفرقة بين صفوف اليسار المصرى، وتغذية الحساسيات الشخصية أو الحلقية فيه.
ويكون الأمر الجدير بالبحث والتفسير هو لماذا خضعت أنت وبعض الاخوة الآخرين، لهذا التصور وتلك الحساسية، ولماذا تصرفتم على أساسه؟
أو لم يكن كافيا لنفى هذه الهواجس عندك، وعند أصدقائك، مبادرتى لاطلاعك على ما قاله السادات للشرقاوى، فى ذلك اللقاء الينايرى الذى وصفته أنت فأجدت والذى يكاد لفرط ما لابسه من أمارات الود، أن يكون لقاء غراميا بين حبيبين؟
ثم هل بدر من الشرقاوى أو منى أو من سواى من المحيطين به بعد ذلك، سواء قبل أو بعد الاعلان عن اختيار الأخ خالد رئيسا للحزب، ما يدل على هذا الغيظ المزعوم؟
لا اعتقد ان شيئا من ذلك قد حدث، وفيما يتعلق بى أنا، فقد استمرت لقاءاتى بك وبالأخ خالد، للحديث والتشاور فيما ينبغى عمله فى هذا الشأن، الى المرحلة الحاسمة التى دخل فيها الامر فى مرحلة اتخاذ الاجراءات والقرارات التنفيذية حيث شعرت، أنا والكثيرين غيرى، ومنهم الشرقاوى ومجموعة روز اليوسف، بأن الامر يتجه بسرعة الى اخراج مثل هذه الاجراءات والقرارات، من نطاق التشاور والاتفاق الى نطاق الانفراد بالقرار، والى التصرف وفقا للاعتبارات الشخصية أو الحلقية، ولا ادل على ذلك مما ذكرته فى كتابك عن الطريقة التى جرى بها قيامكم بتشكيل الهيئة التأسيسية واللجنة المركزية بقرارات منفردة، ودون تشاور أو اتفاق مع بقية فصائل ومجموعات اليسار، مما أصاب الكثيرين، ونحن منهم بالصدمة والاحباط، ولا شك أنك تذكر أن الأخ أحمد حمروش قد تكلم فى اجتماع الهيئة التأسيسية معبرا عن هذا الشعور، وناقدا للطريقة الانفرادية والمتعجلة فى تشكيل الهيئات القيادية للحزب، وداعيا الى معالجة الامر بمزيد من الاناة، حرصا على وحده اليسار، وضمانا لعوامل قوته ونجاحه، لقد كان فى هذا الاسلوب الانفرادى، الشخصى والحلقى ما آثار لدينا ولدى آخرين غيرنا الكثير من المخاوف ودواعى التشاؤم، التى ابتعثتها ذكريات أليمة عن عواقب هذا النهج الحلقى والتكتلى الذى صاحب مسيرة الحركة اليسارية فى مصر، وكان هو العامل الاول فى هدم أركانها وزعزعة قواها، ولعل فيما ذكرته بعد ذلك فى كتابك من الصراعات والمعارك التى جرت فى حزب التجمع، بينكم وبين العديد من الفرقاء الاخرين رغم انكم كنتم تستظلون جميعا بمظلة "العشق التجمعى" ما يؤكد ان ما شعرنا به من الاحباط والتشاؤم وقتها، لم يكن بلا أساس.
كان هناك من أشاروا علينا وقتذاك، بالدخول فى التجمع، والاستمرار فيه، والصراع من الداخل لتصحيح تلك الأوضاع، ولكن خبراتنا القديمة فى هذا المجال، حالت بيننا وبين انتهاج ذلك الطريق، المسألة اذن لم تكن هذا الغيظ الذى تكلمت عنه، الذى انتابنا على حد تصورك، من قيام السادات اختيار الاخ خالد محيى الدين لرئاسة الحزب بدلا من الشرقاوى، والذى اتى ضدكم وليس ضد السادات كما تقول، اذ أن خالد محيى الدين كان وما زال جديرا بهذه المكانة، ولم يكن الشرقاوى أو غيره مرشحا لها من وجهة نظرنا، المسألة كانت فى صدمتنا واحباطنا ونفوزنا وتشاؤمنا من الاسلوب الانفرادى، الشخصى، والحلقى، والتكتلى، الذى انزلقت اليه عملية تشكيل الحزب الجديد، وما يقود اليه هذا الاسلوب من توقعات بالنسبة لمستقبل هذا الحزب، بالرغم من وجود الأخ خالد على رأسه.
أما عن المقولة الثانية التى وردت فى كتابك عن أسباب الخلاف الذى قام بينكم وبين مجموعة الشرقاوى، فكانت على حد قولك:
"لكن الخلاف مع مجموعة الشرقاوى كان -أيضاً- حول التوجه الاساسى نحو الفكرة، وكيفية التعامل معها، وبها فنحن نسعى نحو مساحة يسارية متسعة، مظلة تكون لكل من هو يسارى من جماعات، وما هو يسارى من أفكار، وهم -ربما تعلقا بالفكرة أو تعلقا بالماضى.. أول مجرد التعارض والتمايز عما نطرحه نحن -طرحوا فكرة منبر ماركس، للماركسيين فقط وربما لفصيل واحد منهم".
ويؤسفنى -ياعزيزى الدكتور رفعت- أن أقول لك ان هذه المقولة عارية من الصحة جملة وتفصيلا، ودليلى على ذلك انك لم تقدم أى دليل عليها، ولن تستطيع ذلك مهما حاولت، ذلك أننا نحن أيضاً -كان من رأينا أن يكون الحزب اطارا يضم كل فصائل وقوى اليسار على اختلاف منابعها الفكرية وأصولها التاريخية، وقد كان موقفنا هذا من أهم أسباب صدمتنا واحباطنا للطريقة الانفرادية التى سارت بها عملية تشكيل الهيئات القيادية للحزب، وهو ما يتنافى تماما مع القول بانكم كنتم انتم تسعون نحو مساحة يسارية متسعة، مظلة تكون لكل من هو يسارى من جماعات، وما هو يسارى من أفكار وهم -أى نحن- أى مجموعة الشرقاوى- طرحوا فكرة منبر ماركس، للماركسيين فقط فحسب بل تناقضها مع العقل والمنطق تماما، وذلك على البيان التالى:
- انك -كما سبق لى القول لم تقدم أى دليل عليها، ولن تستطيع ذلك مهما حاولت، لسبب بسيط، هو أ،ه لا نصيب لها من الصحة، وأنت لم تقل، ولن تستطيع أن تقول كيف واين طرحنا هذا الرأى.
- أن وجهة نظرى ووجهة نظر الشرقاوى وكل من ذكرتهم من اصدقائه سواء فى روز اليوسف أو خارجها كانت بالتأكيد هى ضرورة العمل على أن يكون الحزب المطلوب مظله واسعة لليسار المصرى كله، ومنبرا للتعبير عنه، وللنضال من أجل تحقيق البرنامج العام الذى يمكن أن يتنباه اليسار المصرى، ولعلك لا تنسى اننى، فى كل لقائاتى معك ومع الأخ خالد فى تلك المرحلة، كنت أعبر عن هذا الرأى وادافع عنه بكل وضوح، ولم يحدث فى أى لقاء أن اختلفت معكما فى هذا الأمر.
- أنه لا يعقل أن يكون الشرقاوى من انصار بناء حزب للماركسيين فقط "وربما لفصيل واحد منهم" كما تقول فى حين تكون أنت والأخ خالد، من أنصار أن يكون الحزب مظلة واسعة لليسار كله، بكل جماعاته وتياراته، اذ أن ذلك أمر يتعارض مع طبائع الاشياء، ومع التكوين التاريخى المعروف لكما وللشرقاوى فى آن واحد، لقد كان الشرقاوى اشتراكيا عظيما، وكانت عظمتة ترجع أساسا لاتساع أفقه، وبعده عن التعصب المذهبى والجمود الفكرى، وأن اشتراكيته كانت ممتزجة بتوجهاته الليبرالية والإسلامية المعروفة، وهو ماجر عليه عداوات كثيرة من أدعياء الثورية، فمن الذى يصدق مقولتك الحالية، فى أنه كان -هو ومجموعته- يريدونه حزبا للماركسيين فقط، وربما لفصيل واحد منهم، ويرفضون أن يكون مظلة لليسار المصرى بمعناه الواسع؟ 
قل غير ذلك يا دكتور رفعت، فالحقيقة كانت فى الواقع عكس ما قلت، فقلد كان الشرقاوى ومجموعته -وأنا واحد منها- يريدون للحزب أن يكون مظلة واسعة لليسار المصرى وكانوا يريدون ذلك قولا وفعلا، وليس فقط من طرف اللسان كما كان غيرهم يفعل، ومن أجل بناء الحزب، وان المصارحة والشفافية هى الشمان الأساسى لبناء الثقة التى تقوم عليها المشاركة الحقيقية، ومن أجل ذلك فقط اعترضت مجموعة الشرقاوى -وأنا واحد منهم- على انخراطكم انتم فى اتجاه الانفراد بالأمر واستبعاد الآخرين -ونحن منهم- من دائرة بحث الأمور والتقرير بشأنها، ولم تكن المسألة من جانبينا حرصا على المواقع أو المناصب الحزبية، بل كانت الحرص على توفير فرص النجاح للتجربة، وحماية السفينة من أن تتحطم على الصخور، والتمسك بضرورة أن يكون هناك أسلوب عمل صحيح يحول دون تبديد الجهود والدخول فى المتاهات، ولعل ما افضت فيه فى كتابك عن الصراعات والمأزق التى وقعت بينكم وبين شركائكم فى مسيرة العشق التجمعى، ما يؤكد أن اعتراضنا لم يكن بلا أساس.
وها أنت يا عزيزى الدكتور رفعت تقلب الحقائق فى هذا الأمر وتتصور، أو تخترع خلافا بيننا وبينك على طبيعة الحزب الذى كان ينبغى بناؤه، واعتقادى انك لجأت الى ذلك حتى يكون هناك سبب سياسى للخلاف الذى نشأ بيننا فى ذلك الوقت، وذلك سعيا الى التغطية على السبب الحقيقى، وهو رغبتكم فى الانفراد وفرض السيطرة على الحزب الوليد وتلك حيلة معروفة فى الصراعات السياسية بوجه عام وفى الصراعات اليسارية بصفة خاصة، وهى التموية على البواعث الشخصية والحلقية لهذه الصراعات بالباسها طابعا سياسيا أو مبدئيا لا أساس له من الصحة.
على كل حال، اعود فأشكرك على أهدائى كتابك، وأتمنى لك مزيداً من السعادة بالعشق التجمعى الذى ينضح به الكتاب.

وتقبل خالص تحياتى،
2001/1/24                               المخلــــــص
                                             محمود توفيق